والإمامُ تاج الدين السبكي؛ كان ذا اطلاع واسع على كل ما كتب في الأصول ممن سبقوه، لذلك وجدت مصنفه ((الإبهاج)) غنياً بأقوال العلماء والنقل عنهم من مصنفاتهم الأصليَّة، وبذلك فقد حفظ لنا التاج السبكي كثيراً من الآراء والنقول التي قد لا تجدها عند أحد سواه، حيث نقل لنا عن كتب ومؤلفات لا زالت مخطوطة حتى اليوم، ومنها ما هو مفقود لم يُعثَر عليه بعد.
وسأعرض في هذا المبحث لأهم المصادر التي اعتمد عليها التاج السبكي في كتابه ((الإبهاج)) ... وذلك من خلال ذكر العلماء الذين تأثر بهم ونقل عنهم وأهم مصادرهم في ذلك مرتبةً ترتيباً تنازلياً بحسب كثرة النقول عنها:
كانت المصادر الأصولية هي المقدَّمة في النقل عنها، ولا غرابة في ذلك؛ ((فالإبهاج)) هو كتاب أصولي بالدرجة الأولى، وأهم هذه المصادر:
1 - الإمام فخر الدين الرازي: يعدّ الإمامُ فخرُ الدين الرازي في مقدمة العلماء الذين نقل عنهم التاج السبكي في كتابه ((الإبهاج))، فقد أكثرَ التاجُ السبكي من ذكر الإمام والنقل عنه، حتى لا تكاد تخلو صفحةٌ واحدةٌ من ذكرٍ للإمام الرازي، والذي غالباً ما يذكره التاجُ السبكي بلفظ (الإمام)، فحيثما أَطلق لفظَ الإمام انصرف إلى الرازي، وقد بلغ عدد المواضع التي ذكر فيها الإمامَ الرازي مصرّحاً به حوالي أربعمئة وخمس عشرة مرة (415)، وخاصةً في النقل من كتابه ((المحصول)) و ((المنتخب)) ... و ((المعالم)) وغيرها من مصنفات الإمام.
وإنّ هذا العدد الكبير في النقل عن الإمام ليجعلنا نقفُ وَقْفةً لنبحثَ عن السبب في ذلك، ولا يَلُوحُ لديَّ في الإجابة عن هذا التساؤل إلا أمران:
الأول: أنّ ((المنهاج)) هو أحد مختصرات ((المحصول)) للرازي، وقد سار به مصنفه على طريقة الرازي في التصنيف، ومن الطبيعيّ أن يَلجأ شرّاحُ ((المنهاج)) ـ ومن بينهم التاج السبكي ـ إلى الإمام الرازي لحلِّ عبارات ((المنهاج))، إذ هو الأقدَرُ على ذلك؛ لأنّه هو الأصل له.
الثاني: هذا يدلُّنا دلالةً واضحةً على أنّ التاج السبكي متأثرٌ جداً بالإمام الرازي، وأنّ السبكي إنّما هو تلميذٌ منْتَمٍ ومخلصٌ لمدرسة الإمام الرازي الأصولية.
2 - القاضي أبو بكر الباقلاني المتوفى سنة 403هـ: يأتي القاضي أبو بكر الباقلاني في المرتبة الثانية من مصادر ((الإبهاج))، فقد تكرر ذكر القاضي الباقلاني والنقل عنه في ((الإبهاج)) حوالي مئة وتسع وثمانين مرة (189)، وغالباً ما يشير إليه بلفظ (القاضي)، فحيثما أطلق القاضي انصرف إلى الباقلاني.
3 - إمام الحرمين الجويني: الإمام تاج الدين السبكي كان كثيرَ الإجلال والاحترام بل والتعظيم لإمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني، لذلك وجدته كثير النقل عنه وبخاصة من كتاب ((البرهان)) و ((التلخيص)) و ((الأساليب))، حيث تكرر النقلُ عن إمام الحرمين في حوالي مئة وخمسين موضعاً ... (150) في أكثر هذه المواضع كان التاج السبكيُّ فيها موافقاً، وليس ذلك بمستغرب، فإمام الحرمين يعدّ من أساطين الأصوليين، وكتابه ((البرهان)) من أركان طريقة المتكلمين، ولا يمكن لأي أصولي الاستغناء عن أفكاره وآرائه.