ولم يقف الأمر عند الأمراض والأوبئة الفتاكة فحسب، بل فشت في أهل ذلك العصر العديد من الأمراض الاجتماعية والمتمثلة باشتداد الانحلال الخلقي الذي عم الكثير من طبقات ذلك المجتمع، وخاصة طبقة السلاطين، وأهل الدولة، فانتشر فيهم الزنا والبغاء وشرب الخمور والمخدرات التي كانت تفتك بالمجتمع ذلك العصر (?)
وكان السلاطين كلما دَاهمَ البلاد وَباءٌ لجؤوا إلى الله تعالى، وحاربوا تلك المنكرات، وأغلقوا بيوت الخواطيء وحانات الخمر (?)، حتى يفرج الله تعالى عنهم؛ فإذا رفع الله تعالى البلاء عادوا إلى ما كانوا عليه سابقا ً، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.
إلا أنّه وفي ظل هذا الوضع السيء لا بُدّ أن نُسَجّل بعض الملاحظات الهامّة عليه:
الأولى: الاهتمام بالعلم والعلماء، وانتشار العلم الذي أنتج العديد من العلماء الذين كان لهم دور بارز في ذلك العصر (?)، كما سيأتي بيانه في المبحث الثاني.
الثانية: انتشار التصوف بشكل كبير ملحوظ في ذلك العصر، حتى غدا التصوف سِمة بارزة للحياة في مصر والشام في ذلك الوقت (?).
هذه حال المجتمع في ذلك العصر، مجتمع غريب التكوين، يجمع بين طياته عدداً من المتناقضات؛ فهو مجتمع كَثُر فيه الانحلال الخلقي والاجتماعي، وبالمقابل كَثُر فيه العلم والعلماء، وانتشر فيه الزهد المتمثّل بالحركة الصوفية؛ مما أعطى له أهمية كبيرة في تاريخ العالم الإسلامي، ولولا وجود هذا الكم الهائل من العلماء وانتشار العلم مع التصوف لما كان لهذا العصر أيُّ مِيزة يُحمد عليها.
ذَكَرتُ سابقا (?) أنّ الإمام تاج الدين السبكي لم يكن قَطُّ منعزلاً عن أمته؛ بل كان قريباً جداً منها، يتلمّسُ نواحيَ الضعف فيها، فيشخّصُ الداء، ويصفُ له أنجع دواء.