قوله في بيان أقوال الشافعي وأنّ تعدد الأقوال عنه علامةً على علو شأنه في العلم والدين قال بعد ذلك: ((وقد عاب القولين على الشافعي من لا خَلاق له، وأتى بزخرف من القول زكاة ونمَّقه، واللهِ لا سوَّاه ولا عدَّله، وذلك لنقصانٍ وقصورٍ وحَسدٍ كامن في الصدور، وقال في العلماء قولاً كبيراً وفاه بألسنةٍ حداد سيصلى سعيرا ... ونحن لا نَحْفَلُ بكلمه، ولا نقول بكلامه، ولا نرى أن يشتمل مثل هذا الشرح على مثل ذلك الهذيان الذي هو خيال، طَرَق ذا الخيال في منامه، ويُكتَفى بما صنَّفه أصحابنا قديماً وحديثاً في نُصْرة القولين، ويخيل العطن على ذهنه، والبليد على الوقوف عليها)) ثم بيَّن بعض الأدلة على كون القولين لا تُنْقِص من قدر العالم بل فيها مِزْيةٌ وتنبيه على غزارة العلم والمنتهى في الديانة، وختمها بقوله: ((وقد سئل بعضهم ما السبب في قِصَرِ عمر الشافعي، فقال حتى لا يزالون مختلفين، ولو طال عمره لرُفِع الخلاف.)) (?)
فانظر إلى هذه الشدة وهذه القسوة التي ردَّ بها التاج السبكي على من عاب على الشافعي ومن انتقص من قدره وظنَّ أن اختلاف الأقوال فيه نقيصة منه.
وقوله في مسألة جواز النسخ بغير بدل: ((ونُقلَ عن الشافعي رضي الله عنه خلافه وعبارته كرم الله وجهه في ((الرسالة)): ((وليس يُنْسخُ فرضٌ أبداً إلا أُثبتَ مكانه فرض، وكما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة ... )) (?) انتهى.
وظاهرها: أنَّه لا يُنْسخُ الفرضُ إلا ببدل هو فرضٌ أيضاً، وإنما أرادَ الشافعي بهذه العبارة كما نبّه عليه أبو بكرٍ الصيرفي في ((شرح الرسالة)) أنه يُنْقلُ من حظر إلى إباحة، أو إباحة إلى حظر، أو تخيير على حسب أحوال الفروض ... فهذا معنى قول الشافعي رضي الله عنه فرضٌ مكان فرضٍ فافهمه ... فقد وضّح أنّ مراد الشافعي بالبدل الذي ذكر أنه لا يقع النسخ إلا به: انتقالهم من حكم شرعي إلى حكم شرعي، وذلك أعمُّ من أن يعادوا إلى ما كانوا عليه ... والمقصود أنهم ينقلون من حكم شرعي إلى مثله ولا يتركون غير محكوم عليهم بشيء.)) (?)
فأنت ترى هنا كيف أن التاج السبكي قد أوَّلَ كلامَ الإمام الشافعي بحيث يستقيم ولا يُعترَضُ عليه، وهذا هو شأن التاج السبكي دائماً لا يرى أنّ الشافعي قد أخطأ وإن أوهمَ ظاهر كلامه غير ذلك، ذلك أنّ التاج السبكي كان يرى أنّ مخالفة الشافعي في الأصول أمرٌ عظيم وهو غير مقبول.