العللَ، وعلى الرغمِ من مكانةِ الدارقطنيِّ وكتابِهِ العلل، لم يحظَ الدارقطنيُّ بدراسةٍ تحليليةٍ علميةٍ لمنهجهِ في التعليلِ مِنْ قبل، ولخفاءِ عِللِ
الأحاديثِ على كثيرٍ من النَّاسِ خاصةً أهل العلم، حتى صارَ من أغْمضِ أنواع العلوم وأدقها مسلكًا، ولا يقومُ بِهِ إلا مَنْ منحَهُ اللهُ فَهْمًا وإطلاعًا، وإدراكًا لمراتب الرواة، ومعرفةً ثاقبةً لاختلافِ المرويَّاتِ والرِّجالِ.
فكُلُّ هذهِ الأسبابِ وغَيرِهَا قد حجبت أنوار تلك الكنوز والدُّرر الثمينة، وقللت من الانتفاع بها، فرأيتُ أن أُساهِمَ في تذليلِ تلكَ العقباتِ أمامَ طلابِ العلمِ والباحثينَ لفهِمِ مقاصدِ أئمةِ النَّقدِ ومدلولاتِ ألفَاظِهِم في العللِ والرجالِ، والاستفادةِ بأقوالهِم وأحكَامِهِم لتصحيحِ الأحكامِ، وترجيحِ الأقوالِ، وبالأخصِ لمعرفةِ الطريقةِ التي كان يَسلُكَهَا الدارقطنيُّ ومدلولِ ألفاظِهِ في التعليلِ، ليكونَ الباحثُ على بصيرةٍ مِنهَا، وفتحُ البابِ لدراسةِ بقيةِ مناهجِ أئمةِ النَّقدِ.
ولا يَشُكُّ مُشْتَغلٌ بهذا الفنِ فضلاً عن بارعٍ فيهِ، بأنَّ معرفةَ عللَ الحديثِ، وأحوالَ الرجالِ، وفِهْمَ مَقَاصِد وألفاظِ أئمة النَّقدِ، بمثابةِ الرأسِ مِنَ الجسدِ في علمِ الحديثِ، وبالنسبةِ لطلبة العلم والباحثين، تعتبر من أهمِ المباحث التي تساعدهُم في التحققِ من صحة الحديث، وبالتالي صحةِ الاستنباطِ، وصحةِ البرهنةِ على الراجحِ من الأقوالِ، لذا كانت دراسةُ منهج الإمام الدارقطني في كتابه العلل من أنفع المباحث التي دُرِستْ في هذا المضمار بفضل الله عزَّ وجلَّ، لإفصاحِها عن غُررٍ عزيزة، وفوائد جليلة لا تكاد تجدها في غيرها، وقد وفِّقتُ بفضل الله تعالى لبيان جانبٍ عظيمٍ من هذه الدرر والفوائد.
وقد استعرضتُ في هذهِ الدراسةِ جانباً هاماً من أحكامِ الدارقطنيِّ على الأحاديثِ المعلولةِ مثلُ الاضطرابِ، أو التصحيفِ، أو الإدراج، أو النَّكارةِ أو الشذوذِ وغيرها، فقد يكون الحديث مروياً بالمعنى الخطأ عن الثقات - الذين عليهم العمدةُ في المرويَّاتِ مما يوهم صِحتَهُ - فيُحكمُ عليهِ بالصحةِ، ويعتبرُ دليلاً لحكمٍ شرعي، وليس هُو بصحيح بل هو ضعيفٌ معلولٌ، وقد ضربت أمثلةً كثيرة في هذه الدراسة تدل على ما ذكرتُ آنفاً.