وَكَانَ مُعَاوِيَةُ خَطِيبًا، وَكَانَتْ عَائِشَةُ مِنْ أَخْطَبِ النَّاسِ، حَتَّى قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: سَمِعْتُ خُطْبَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، فَمَا سَمِعْتُ الْكَلَامَ مِنْ مَخْلُوقٍ أَفْحَمَ وَلَا أَحْسَنَ مِنْ عَائِشَةَ.
وَكَانَ الْخُطَبَاءُ الْفُصَحَاءُ كَثِيرِينَ فِي الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ، وَجَمَاهِيرُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَأْخُذُوا عَنْ عَلِيٍّ شَيْئًا.
فَقَوْلُ الْقَائِلِ: " إِنَّهُ مَنْبَعُ عِلْمِ الْفَصَاحَةِ " كَذِبٌ بَيِّنٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَخْطَبَ مِنْهُ وَأَفْصَحَ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا.
وَلَيْسَتِ الْفَصَاحَةُ التَّشَدُّقَ فِي الْكَلَامِ، وَالتَّقْعِيرَ فِي الْكَلَامِ (?) ، وَلَا سَجْعَ الْكَلَامِ، وَلَا كَانَ فِي خُطْبَةِ عَلِيٍّ وَلَا سَائِرِ خُطَبَاءِ الْعَرَبِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ تَكَلُّفُ الْأَسْجَاعِ، وَلَا تَكَلُّفُ التَّحْسِينِ الَّذِي يَعُودُ إِلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ، الَّذِي يُسَمَّى عِلْمَ الْبَدِيعِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْخُطَبِ وَالرَّسَائِلِ وَالشِّعْرِ.
وَمَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [سُورَةُ الْكَهْفِ: 104] وَ {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ} [سُورَةُ الْعَادِيَاتِ: 11] وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَمْ يُتَكَلَّفْ لِأَجْلِ التَّجَانُسِ، بَلْ هَذَا تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، كَمَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَوْزَانِ الشِّعْرِ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ الشِّعْرُ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سُورَةُ سَبَأٍ: 13] ،