وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي تَصْوِيبِ الْمُتَنَازِعِينَ: مُصِيبِينَ أَوْ مُخْطِئِينَ، مُثَابِينَ أَوْ مُعَاقَبِينَ، مُؤْمِنِينَ أَوْ كُفَّارًا - هُوَ فَرْعٌ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ وَغَيْرِهَا.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنِ اجْتَهَدَ وَاسْتَدَلَّ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ إِلَّا مَنْ تَرَكَ مَأْمُورًا بِهِ (?) أَوْ فَعَلَ مَحْظُورًا. وَهَذَا هُوَ قَوْلُ (?) الْفُقَهَاءِ وَالْأَئِمَّةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَقَوْلُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ الصَّوَابَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ وَافَقُوا فِيهِ السَّلَفَ وَالْجُمْهُورَ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ طَلَبَ وَاجْتَهَدَ وَاسْتَدَلَّ عَلَى الشَّيْءِ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِيهِ، بَلِ اسْتِطَاعَةُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتَةٌ.
وَالْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ (?) : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْقُدْرَةِ، وَلَمْ يَخُصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا فَضَّلَهُمْ بِهِ عَلَى الْكُفَّارِ حَتَّى آمَنُوا، وَلَا خَصَّ الْمُطِيعِينَ بِمَا فَضَّلَهُمْ بِهِ عَلَى الْعُصَاةِ حَتَّى أَطَاعُوا.
وَهَذَا مِنْ أَقْوَالِ (?) الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمُ الَّتِي خَالَفُوا بِهَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ، وَالْعَقْلَ الصَّرِيحَ، كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ. وَلِهَذَا قَالُوا: إِنْ كُلَّ مُسْتَدِلٍّ فَمَعَهُ قُدْرَةٌ تَامَّةٌ يَتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ.