وأخَفْتَ أهلَ الشركِ حتَّى أنَّه ... لتَخَافُكَ النُّطَفُ التي لمْ تُخلقِ
ومثل هذا البيت لا يجوز عند أهل البلاغة، ولكن الغلو عندهم يجوز في بعض الأحوال ككونه خارجًا مخرج الهزل والخلاعة كقوله:
اسْكَرُ بالأمس إن عزمتُ على الشُّـ ... ـرب غدًا إنَّ ذا مِن العجب
وكقول النظَّام:
توهَّمَه طَرفي فآلم طرفه ... فصارَ مكانَ الوهم في خدِّه أثر
ومرَّ بفكري خاطرًا فجرحتُه ... ولمْ أَرَ خلْقًا قَطُّ يجرحُه الفكرُ
وككونه متضمنا حُسْن تخييل كقول أبي الطيب يصف فرسًا:
عَقَدَتْ سنابكُها عليها عِثْيَرا ... لو تبتغي عنقًا عليْهِ لأمكَنَا
وقول المعَرِّي يصف سيفًا:
يُذيبُ الرعبُ منه كلَّ عَضْب ... فلولا الغمدُ يمسكُهُ لَسَالاَ
فمثل هذا كله جائز عند البلاغيين؛ بل هو عندهم بديع معنوي، ومعلوم أن مثله لا يجوز في القرآن.
وما زعمه كثير من أهل البلاغة من أن الغلو جاء في القرآن إلا أنه جاء مقترنًا بما يجعله مقبولاً وهو اقترانه بما يقربه إلى الصحة ممثلين بقوله تعالى: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ) [سورة النور: 35] .
فإنه كلام باطل ومنكر من القول وزور. سبحان الله وتعالى علوُّا كبيرًا عن أن يكون في كلامه ما هو قريب من الصحة؛ لأن القريب من الصحة ليس بصحيحٍ في نفس الأمر، والله يقول: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [سورة النساء: 122] . ويقول: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [سورة النساء: 87] .