إذا حنَّ سلاّفُ الرَّبيعِ أمامَها ... وراحتْ رواياهُ على الأرضِ ترجفُ
فلمْ تدعِ الأرواحُ والماءُ والبِلى ... منَ الدَّارِ إلاَّ ما يشوقُ ويشعفُ
رسوماً كآياتِ الكتابِ مبينةً بها ... للحزينِ الصَّبِّ مبكًى وموقفُ
وقفتُ بها والدَّمعُ يجري حبابهُ ... على النَّحرِ حتَّى كادتِ الشَّمسُ تكسفُ
تذكَّرتُ أيَّاماً تسلَّفتُ لينَها ... على لذَّةٍ لو يُرجعُ المتسلَّفُ
كأنَّكَ لمْ تعهدْ بها الحيَّ جيرةً ... جميع الهوى في عيشهِ ما تصرَّفُ
إذِ النَّاسُ ناسٌ والبلادُ بغرةٍ ... وأنتَ بها صبُّ القرينةِ مولفُ
وقدْ كانَ في الهجرانِ لو كنتَ ناسياً ... رميمَ وهلْ يَنسى ربيعٌ وصيِّفُ
ولمْ تُنسني الأيَّامُ والبغي بينَنا ... رميمُ ولا قذفُ النَّوى حينَ تقذفُ
ولمْ يحلُ في عيني بديلٌ مكانَها ... ولمْ لتبسْ بي حبلُ من يتعطَّفُ
وقدْ حلفتْ والسِّترُ بيني وبينها ... بربِّ حجيجٍ قد أهلُّوا وعرَّفوا
على ضمَّرٍ في الميسِ ينفخنَ في البُرى ... إذا شابكتْ أنيابُها اللَّجنَ تصرفُ
لقدْ مسَّني منكِ الجوى غيرَ أنَّني ... أخافُ كما يخشى على ذاكَ أحلفُ
وكانَ صدودٌ بعدَما أبطنَ الهوى ... قلوباً فكادتْ للذي كانَ تجنفُ
كتركِ الأميمِ الهائم الماءَ بعدَما ... تنحَّى بكفَّيهِ يسوفُ ويغرفُ
وداويَّةٍ لا يأمنُ الرَّكبُ جوزَها ... بها صارخاتُ الهامِ والبومِ يهتفُ
دعاني بها داعِي رميمٍ وبينَنا ... بهيمُ الحواشي ذو أهاويلَ أغضفُ
تقحَّمتُ ليلَ العيسِ وهيَ رذيَّةٌ ... وكلَّفتُ أصحابي الوجيفَ فأوجفُوا
لنخبرَ عنها أو نرى سروَ أرضِها ... وقدْ يُتعبُ الرَّكبَ المحبُّ المكلَّفُ
ولوْ لمْ تملْ بالعيسِ معويَّةُ العُرى ... لمالَ بها أيكٌ أثيثٌ وغرْيفُ
ومكنونةٌ سودُ المجاثمِ لمْ يزلْ ... يهوِّئُها للعيكتَينِ التَّلهُّفُ
وما العيشُ إلاَّ في ثلاثٍ هيَ المُنى ... فمنْ نالَها من بعدُ لا يتخوَّفُ
صحابةُ فتيانٍ على ناعجيَّةٍ ... مناسمُها بالأمعزِ المحلِ ترعفُ
وكأسٌ بأيدي السَّاقيَيْنِ رويَّةٌ ... يمدَّانِ راووقيهِما حينَ تنزفُ
وربَّةُ خدرٍ ينفحُ المسكَ جيبُها ... تضوَّعَ ريَّاها بهِ حينَ تصدفُ
إذا سُلبتْ فوقَ الحشيَّاتِ أشرقتْ ... كما أشرقَ الدِّعصَ الهجانُ المصيَّفُ
وقال عبيد أيضاً:
أتعرفُ رسماً كالرِّداءِ المحبَّرِ ... برامةَ بينَ الهضبِ والمتغمَّرِ
جرتْ فيهِ بعدَ الحيِّ نكباءُ زعزعٌ ... بهبوةِ جيلانٍ منَ التُّربِ أكدَرِ
ومرتجزٌ جونٌ كأنَّ ربابهُ ... إذا الرِّيحُ زجَّتهُ هضابُ المشقَّرِ
يحطُّ الوعولَ العصمَ منْ كلِّ شاهقٍ ... ويقذفُ بالثِّيرانِ في المتحيَّرِ
فلمْ يترُكا إلاَّ رسوماً كأنَّها ... أساطير وحيٍ في قراطيسِ مقتري
منازلُ قومٍ دمّنوا تلعاتهِ ... وسنُّوا السَّوامَ في الأنيقِ المنوَّرِ
ربيعهمُ والصَّيفُ ثمَّ تحمَّلوا ... على جلَّةٍ مثلِ الحنيَّاتِ ضمَّرِ
شواكلَ عجعاجٍ كأنَّ زمامهُ ... بذكّارةٍ عيطاءَ من نخلِ خيبَرِ
بهِ منْ نضاخِ الشَّولِ ردعٌ كأنَّهُ ... نقاعةُ حنَّاءٍ بماءِ الصّنوبَرِ
كسوها سخامَ الرَّيطِ حتَّى كأنَّها ... حدائقُ نخلٍ بالبرودَينِ موقَرِ
وقامَ إلى الأحداجِ بيضٌ خرائدٌ ... نواعمُ لمْ يلقينَ بُوسَى لمقفَرِ
ربائبُ أموالٍ تلادٍ ومنصبٌ ... منَ الحسبِ المرفوعِ غيرِ المقصِّرِ
هدينَ غضيضَ الطَّرفِ خمصانةَ الحشا ... قطيعَ التَّهادي كاعباً غير معصرِ
مبتَّلةً غرّاً كأنَّ ثيابَها ... على الشَّمسِ غبَّ الأبردِ المتحسِّرِ
قضوا ما قضَوا منْ رحلةٍ ثمَّ وجَّهوا ... يمامةَ طودٍ ذي حماطٍ وعرعَرِ
وعاذلةٍ ناديتُها أنْ تلومني ... وقدْ علمتْ أنِّي لها غيرُ موثرِ
على الجارِ والأضيافِ والسَّائلِ الذي ... شكا مغرماً أو مسَّهُ ضرُّ معسرِ