لكن الأزمة الحقيقية في مجتمعاتنا الآن هي أن نظم التربية الحديثة فيها قدمت المهم على الأهم، وحولت ما كان إجباريا وفرض عين، إلى اختياري وفرض كفاية، فتضخمت بذلك مناهج العلوم العقلية والكونية، واحتلت المرتبة الأولى في المناهج والجداول الدراسية، وأزيحت علوم العقيدة والشريعة إلى المراتب المتأخرة، وأصبحنا لا نرى للقرآن والحديث والفقه إلا حصة واحدة في الأسبوع. في حين تحتفظ الرياضيات غالبا بسبع حصص والفيزياء بأربعة، والكيمياء بأربعة، واللغة الإنجليزية بمثل ذلك، أما العلوم العسكرية والتدريب على فنون الحرب والجهاد فقد رفعت من الجداول المدرسية تماما!
وهذا -في الغالب- أثر من آثار تحول الأمة عن منهج الله إلى المناهج الدخيلة الأخرى، وتبني شرائع غير شريعة الله لحكم الحياة، وبذلك تم زحزحة الشريعة الإسلامية من مناهج التربية لتحل محلها دراسة الفلسفات الوضعية التي تأخذ مكانها الحاكم في توجيه كيان الأمة، فأقسام الفلسفة ومقرراتها تحتل مكانا مرموقا في معظم كليات علوم الإنسان، وخاصة كليات إعداد المعلمين.
علوم الدين هي علوم للدنيا:
إن كل علم يصمم ويدرس على أساس أن إسهامه في بناء الإنسان القادر على المشاركة بإيجابية وفاعلية في عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله، هو علم ديني من وجهة نظر الإسلام، يستوي في ذلك علوم الشريعة والعلوم الحديثة، كالرياضيات، والطبيعة، والكيمياء، وعلوم التقنية الحديثة.. إلى آخره.
وقد قرر هذه الحقيقة كثير من المفكرين المسلمين الفاهمين لنص الإسلام وروحه، أن تقسيم العلوم إلى "دينية" وأخرى "دنيوية" يقوم على أساس نظرية الفصل بين الدين والحياة، وتعتبر مثل هذه النظرية متعارضة تعارضا تاما مع الإسلام الحنيف، ذلك أن الدين في نظر الإسلام ليس شيئا منفصلا عن الحياة، وعلى هذا فإن اعتبار العالم ملك "لله" تبارك وتعالى، واعتبار الناس فيه عبادا لله، يحيون وفق مشيئته، وحسب تعاليمه، لهو "الدين" بمعناه الصحيح، وهو في نفس الوقت الأساس الذي تقوم عليه الشريعة الإسلامية، وهكذا فإن مثل هذا التصور للحياة البشرية على هذه الأرض يؤدي إلى تحويل جميع العلوم "الدنيوية" إلى علوم "دينية"، أما تقسيم العلوم إلى قسمين: "ديني" يدرس من وجهة النظر الإلهية، وآخر "دنيوي" يدرس من وجهة النظر الأخرى المقابلة فإنه يفضي بأجيالنا إلى الاعتقاد بأن الدين شيء والحياة شيء آخر، وأن كلا منهما يسير في مجرى لا صلة له بالآخر، وهكذا