القاهر الجرجاني من المشارقة والحصري القيراوني من المغاربة، وابن رشيق وأحمد بن عبد ربه من الأندلسيين. بل إن نسخ البيان والتبيين وصلت إلى الأندلس في حياة الجاحظ فأعلت ذكره وجعلت الكثيرين من شباب الأندلس المرتحلين إلى المشرق طلبًا للعلم ينحدرون إلى البصرة لكي يروا الجاحظ ويتلقوا عنه.
وكل موضوعات كتاب البيان والتبيين جيدة يستوي في ذلك ما نهج فيه منهج الجد، وما جنح فيه إلى جانب الفكاهة والهزل.
فأما موضوعات الجد في الكتاب فتتلخص في الأغراض الآتية:
1- الخطابة: وقد أورد الجاحظ أخبار الخطباء في الجاهلية والإسلام، كما بين صفات الخطيب الناجح، وذكر مكانة الخطيب بين قومه حين قدموه في كثير من الأحيان على الشاعر، كما ذكر الخطباء الشعراء وأخبارهم وزودونا بعد ذلك بعدد وافر من الخطب المشهورة لمشاهير الخطباء كالحجاج، وزياد وأكثم بن صيفي وعامر بن الظرب وقس بن ساعدة وزيد بن علي، كما قدم نماذج لأغراض الخطابة المتعددة. وهو حين يتحدث الخطيب يمدح الصوت الجهير ويذم الصوت الضئيل، كما ذكر في مقام رحابة الشدق وسعة الفم ويعد الصوت وذكر في مقام الذم صغر الفم.
ويذكر أيضًا النساء الخطيبات الفصيحات مثل أم المؤمنين عائشة وصفية بن عبد المطلب وغيرهما، وللخطابة والخطباء ونماذج الخطب أمكنة رحيبة في البيان والتبيين.
2- البلاغة والبيان: ولعل هذا الغرض الذي جاء على صفحات عديدة من الكتاب، مجمعًا تارة ومفرقًا تارة أخرى، من أهم أغراض الكتاب. فلقد تحدث الجاحظ عن اللحن واللحانين ومخارج الحروف، كما تحدث عن اللثغة وضرب لذلك مثلًا بواصل بن عطاء الذي كان خطيبًا مفوهًا ولكنه كان يتفادى الألفاظ التي فيها حرف الراء حتى لا يؤذي آذان السامعين بقبح نطقها، كما تحدث عن البلاغة في الإيجاز وعن البلاغة في الإطناب وضرب لذلك أمثلة كثيرة، هذا فضلًا عن نماذج كثيرة جدًّا لضروب من الأقوال البليغة.
3- الشعر: لقد وشى الجاحظ كتابه هذا بمنتخبات من الأشعار اختارتها قريحة أديب لماح، وكان يقف عند كثير من المقطوعات التي يجيء بها وقفة الصيرفي الناقد البارع يبين وجوه محاسنها إن كانت حسنة، ووجوه قبحها إن كانت معيبة. ولم يكن يترك شاعرًا منذ الجاهلية إلى عصره إلا وقد اختار شيئًا من شعره في مناسبة بعينها وقدم بعضًا من أبياته في مجال الاستشهاد، والحق أن ما قد حواه البيان والتبيين من ثروة شعرية يعد شيئًا نادر المثال مثل تلك المجموعات التي اختارها أبو تمام أو البحتري وغيرهما، وأطلقوا عليها اسم كتب "الحماسة".