غير أننا وقد ذكرنا تلك الكتب نحسُّ أننا لا نستطيع أن نجرد الجاحظ من مسحة شعوبية حين كتب كتابًا بعنوان فضل الفرس، ثم انعطف وكتب كتابًا آخر بعنوان: التسوية بين العرب والعجم.
قد يقول قائل إن ما كتبه الجاحظ حق، فالإسلام سوى بين العرب والعجم وغيرهم من الشعوب. والجواب أنه إذا كان الأمر كذلك فإنه لم يكن هناك ما يدعو إلى تأليف كتاب بهذا العنوان، هذا فضلًا عن الكتاب الآخر الذي خصصه لفضل الفرس.
على أننا ونحن نعرض لمؤلفات الجاحظ لا بد لنا أن نقف وقفة قصيرة عند كتابيه "البيان والتبيين" و "الحيوان" محاولين استكناه قدرهما ومنهجهما الأدبي.
وعلى عادة المؤلفين القدماء الذين كانوا يعيشون من أقلامهم وكتبهم أهدى الجاحظ كتابه "البيان والتبيين" إلى القاضي أحمد بن أبي دؤاد وزير المأمون، وأهدى كتابه "الحيوان" إلى الوزير الأديب محمد بن عبد الملك الزيات، كما أهدى كتابه "النخل والزرع" إلى الكاتب العبقري إبراهيم بن العباس الصولي، ومعنى ذلك أن كتاب "الحيوان" أسبق تأليفًا من "البيان والتبيين"؛ لأن محمد بن عبد الملك الزيات الذي أهدى الجاحظ إليه كتاب الحيوان توفي سنة 223هـ وأما أحمد بن أبي دؤاد الذي أهدى إليه كتاب البيان والتبيين، فقد ولى أمر الدولة بعد مقتل ابن الزيات وبقي في الحكم سبع سنوات أثار فيها فتنة خلق القرآن وتوفي سنة 240 هـ، وأما الصولي الذي أهدى إليه كتاب الزرع والنخل فقد توفي سنة 243هـ.
يبقى بعد ذلك معنى أكبر من طبيعة الإهداء نفسه، فذلك أمر غير ذي بال اللهم إلا في تحديد أي من هذه الكتب الكبرى قد كتب قبل أخيه، أما المعنى الذي نقصد إليه فهو أن الجاحظ قد ألف هذه الكتب التي ازدانت بها المكتبة العربية، وهو فوق الثمانين من العمر، فليس غريبًا إذن أن يكون هذان الكتابان اللذان بين أيدينا محققين مطبوعين أكثر من مرة يمثلان فكر الجاحظ وخلاصة علمه وجوهر تجربته.
البيان والتبيين:
إنه في نظرنا أفضل آثار الجاحظ جميعًا وهو واحد من أشهر كتب الأدب العربي الذي يعلم الذوق ويصقل الفكر وينبه الخاطر ويوسع المدارك وما من أدب في العربية منذ تاريخ تأليف هذا الكتاب إلى يومنا إلا وقد أفاد منه واستعان به في شئون الثقافة الإسلامية والأدب العربي، ولم يخل كتاب كبير من كتاب عباقرة العربية من أثر منه مبتدئين بابن قتيبة الذي هو نظير للجاحظ علمًا وفضًلا مارين بعلماء المشارقة والمغاربة والأندلسيين مثل المبرد وعبد