ويقول الجاحظ في صفة الأسلوب الأمثل: "متى شاكل -أبقاك الله- اللفظ معناه، وكان لذلك الحال وفقًا، ولذلك القدر لفقًا، وخرج من سماحة الاستكراه، وسلم من فساد التكلف، كان قمينًا بحسن الموقع، وحقيقًا بانتفاع المستمع، وجديرًا أن يمنع جانبه من تأول الطاعنين، ويحمي عرضه من اعتراض العائبين، ولا تزال القلوب به معمورة، والصدور به مأهولة، ومتى كان اللفظ أيضًا كريمًا في نفسه، متخيرًا من جنسه وكان سليمًا من الفضول بريئًا من التعقيد حبب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول، وهشت له الأسماع وارتاحت له القلوب، وخف على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره، وصار مادة للعالم الرئيس، ورياضة للمتعلم الريض، ومن أعاره من معرفته نصيبًا، وأفرغ عليه من محبته ذنوبًا، حبب إليه المعاني وسلس له نظام اللفظ، وكان قد أغنى المستمع عن كبر التكلف، وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهم"1.
هذه هي طريقة الجاحظ في الكتابة يصفها للمتأدبين ويمارسها بنفسه حين يكتب، لا يفتعل ولا يتوعر ولا يسجع إلا لمامًا ولكنه يعمد إلى المزاوجة وهي ضرب من الكتابة أقرب إلى السجع وإن تخلصت من القافية.
أما وقد استقام للجاحظ أسلوب الكتابة فإنه لم يلبث أن عمد إلى التأليف من خلال هذا النمط السهل الرفيع من أنماط الكتابة.
وكان الجاحظ من رجال المعتزلة ينهج نهجهم في تفكيرهم الديني ويسير في ركبهم، بل على رأسهم، فقد أصبح له مدرسة تفكير تعرف بالمدرسة الجاحظية وكان هو عميدها بطبيعة الحال. وقد تورط فيما تورط فيه بعض المعتزلة على أيام المأمون والمعتصم في فتنة خلق القرآن، ولم يستنكر ما تعرض له بعض أئمة المسلمين من تعذيب من خلال تلك الفتنة، كالذي حدث للإمام أحمد بن حنبل، بل هو واحد من الذين أرخوا لهذه المحنة تاريخًا كان من الأفضل لو لم يورط نفسه فيه.
وعلى كل حال فقد كان الجاحظ عالمًا جليلًا حتى إن المتوكل لما علم بفضله استدعاه لتأديب بعض ولده، ولكنه عندما رآه استبشع منظره فأمر له بعشرة آلاف درهم وصرفه. وكان الجاحظ على فيض علمه ووافر أدبه لا يزال متطلعًا إلى المزيد، وكان يقول: "إذا سمعت الرجل يقول ما ترك الأول للآخر شيئًا، فاعلم أنه ما يريد أن يفلح".
والجاحظ مع علمه وفضله واعتزاله، ظريف صاحب نكتة وحليف بسمة خفيف الظل سريع البديهة لماح العارضة، وله نوادر كثيرة باسمة ومضحكة حكى طرفًا منها ياقوت في