إن يحيى البرمكي تحل به المصيبة في ولده وماله وجاهه ويوضع في السجن، وهو شيخ كبير هو ومن بقي من أولاده، ويحس الرجل ببراءته وبأن الذي حل به وبأولاده لم يزد على كونه مؤامرة لإقصائهم ووصول حساده إلى الحكم فيكتب إلى الرشيد من سجنه هذه الصفحات المشرقة من أسلوب الكتابة العربية1:

"لأمير المؤمنين وخليفة المهديين، وإمام المسلمين، وخليفة رب العالمين، من عبد أسلمته ذنوبه، وأوبقته عيوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه، ومال به الزمان، ونزل به الحدثان، فحل في الضيق بعد السعة، وعالج البؤس بعد الضعة، وافترش السخط بعد الرضى، واكتحل السهاد بعد الهجود، ساعته شهر، وليلته دهر، وقد عاين الموت، وشارف الفوت، جزعًا لموجدتك يا أمير المؤمنين وأسفًا على ما فات من قربك، لا على شيء من المواهب؛ لأن الأهل والمال إنما كانا لك وبك، وكانا في يدي عارية؛ والعارية مردودة، وأما ما أصبت به من ولدي فبذنبه، ولا أخشى عليك من الخطأ في أمره، ولا أن تكون تجاوزت به فوق حده، فتذكر يا أمير المؤمنين كبر سني، وضعف قوتي، وارحم شيبي وهب لي رضاك، بالعفو عن ذنب إن كان، فمن مثلي الزلل، ومن مثلك الإقالة، وإنما أعتذر إليك بإقرار ما يجب به الإقرار حتى ترضى عني، فإذا رضيت رجوت إن شاء الله أن يتبين لك من أمري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك بعده ذنب أن تعفره، مد الله لي في عمرك، وجعل يومي قبل يومك".

هذا النمط السامي القدر الرفيع الصوغ من الكتابة عاش في الثلث الأخير من القرن الثاني الهجري، فأي سرعة فائقة تلك التي واكبت الكتابة العربية فسمت بها في هذه المدة القصيرة من الزمان وكانت قبل ذلك عدمًا، إننا نكاد نحس بالمعاني وكأن وعاء اللفظ لا يسعها، ونكاد نحس بالألفاظ، وهي تصرخ معبرة عن معانٍ عميقة تشرح لوعة منكوب وذل عزيز مظلوم وصيحة شيخ لا حول له ولا قوة، إن لغة مثل هذه لا يستعصي عليها أن تكون أداة طيعة لتأليف الكتب لبداية بناء المكتبة العربية.

ويموت يحيى البرمكي السياسي الحاذق الحكيم في السجن، ويبحث له عن وصية فإذا بورقة تحت وسادته تضم أشهر وأبلغ الوصايا مرارة في تاريخ العربية: "قد تقدم الخصم، والمدَّعَي عليه في الأثر، والحكم لا يحتاج إلى بينة"2.

وتنتهي أجيال الحكام من البرامكة، وتأتي أجيال أخرى لأسرة أخرى تركية هي أسرة بني

طور بواسطة نورين ميديا © 2015