وإن لظهور هذه النفائس في العصر المملوكي على وجه الخصوص معنى كبيرًا لا ينبغي أن تفوتنا دلالته العميقة التي تصحح دون ريب تصورًا خاطئًا وقر في أذهان كثير من الدارسين لقد ذهب بعض الكتاب دونما قصد في الأحكام، أو تروٍّ في إصدارها إلى أن العصر المملوكي كان عصر تخلف علمي، وتأخر أدبي، واخترعوا لذلك أسبابًا وابتدعوا تعلات ودواعي، ولم يخطر ببالهم قبل إصدار تلك الأحكام أن يلتفتوا بعض الشيء إلى هذه الأعمال العلمية الكبرى الوفيرة العدد التي يغني الواحد منها عن مائة كتاب، كما أنهم لم يزنوا طبيعة العصر ودقته وخطره ولم ينتبهوا إلى أنه كان يمثل جانبًا من الوطن الإسلامي الكبير، الذي خرج من محنة التتار منهوك القوى مثخنًا بالجراح مجردًا من كنوز عقوله المسجلة في روائع الكتب التي ألقيت في نهر دجلة فطمته، وسود مدادها صفاء مائه لفترة من الزمان كانت شاهدًا على أكبر جريمة ارتكبت في حق الإنسانية على مر الدهور، هذه واحدة، ومن ناحية أخرى، لم تقف ملكة التأليف السخية بأصحاب الموسوعات عند اقتصار كل واحد منهم على موسوعته وإنما جادت قرائحهم الخصيبة بأعداد وفيرة من المؤلفات لم تلقَ من حظ الشهرة -على نفاستها- ما لقيته أخواتها على ما سوف نبين بعد قليل، ومن ناحية ثالثة لم يكن هذا العصر مجرد عصر إحياء ما ذوي ولم شتات ما اندثر من آثارنا الفكرية وتسجيل ما هو مهدد بالزوال من أدبنا ما كان منه مسطرًا في الكتب أو مبعثرًا في الأذهان وحسب1، وإنما كان عصر عطاء وبناء وابتكار، وآية ذلك ظهور العالم الجليل والمفكر الأديب، والمؤرخ الدقيق والفيلسوف العميق والسياسي العظيم عبد الرحمن بن خلدون، إن الظاهرة الخلدونية لا يمكن أن تتوفر لها أسباب الظهور في مجتمع متخلف الفكر جامد العطاء، كل مهمته تسجيل ما فات وتحبير نتاج فكر مضى، وإنما معنى ذلك أن المجتمع -رغم أن حكامه لم يكونوا عربًا- وكان مجتمع علم اتسم بالوقار واتصف بالعمق ونأى بنفسه عن أسباب الضجيج التي سايرت بعض العصور السابقة له.
هذا وليس معنى كون الحكام آنذاك -في مصر مركز الثقافة- غير عرب أن يتخلف العلم، ويجف مداد الأقلام وتتوقف العقول عن التفكير وتعجز القرائح عن العطاء، فتلك نظرية خطيرة لم يثبت التاريخ صحتها؛ ذلك لأن هؤلاء الملوك أنفسهم كانوا مسلمين وإن لم يكونوا عربًا، والحضارة في جوهرها حضارة إسلامية قبل أن تكون عربية، ولم يكن من المعقول أو المقبول أن يقف الملوك الذين قهروا التتار وحاربوا الصليبيين في وجه الفكر