كففنا بك الأيام عن غلوائها ... وقد رابنا منها التعسف والكبر

وفيها يقول ذاكرًا بلاده:

بلادي التي عاطيت مشمولة الهوى ... بأكنافها والعيش فينان مخضر

وجوى الذي ربى جناحي وكره ... فها أنا ذا ما لي جناح ولا وكر

يقول ابن خلدون وقد كان حاضرًا هذا الحفل، ثم صار وابن الخطيب صديقين: إن ابن الخطيب أبكى سامعيه تأثرًا وأسى.

ويقضي لسان الدين وسلطانه المخلوع في المغرب عامين ونصف عام، استقر لسان الدين خلالها في بلدة "سلا" ثم لا يلبث أن يعود مرة أخرى إلى غرناطة مع الغني بالله حين يسقط إسماعيل، ويصبح لسان الدين ذا الوزارتين ويغرق في السياسة إلى أذنيه، ويسطع كوكبه، وتعز مكانته حتى يشعر بالكائدين من حوله يكيدون له، والحاسدين يتربصون به، فيترك الوزارة مختارًا ويتجه إلى المغرب كي يسترح ويخلو إلى نفسه وعقله ويعايش كتبه ويجالس أشعاره وأفكاره، ويسترد صمته ويسجل ثمرة قراءاته وخبراته بالحياة التي سئمها سلطانًا وحكمًا وقلاها درعًا وزهدًا، بل إنه كان كذلك وهو يتسنم منصب ذي الرئاستين، كان بعيدًا عن كل أبهة في المظاهر، متقشفًا ظاهرًا وباطنًا، وعلى حد تعبيره وهو يصف حاله إبان الحاكم: "خامل المركب، معتمدًا على المنسأة، مستمتعًا بخلق النعل، راضيًا بغير النبيه من الثوب، مشفقًا من موافقة الغرور، هاجرًا الزخرف، صادعًا بالحق في أسواق الباطل، كافًّا عن السخال براثن السباع، ثم صرفت الفكر إلى بناء الزاوية والمدرسة والتربة"1.

إن ابن الخطيب يبرئ ساحته من كثير من الاتهامات التي كانت توجه إليه من قبل الكائدين له المتربصين، وما من واحد منهم إلا وابن الخطيب صاحب فضل عليه، فقد كان تلميذه ومعاونه الأديب الشاعر محمد بن يوسف يناوئ سياسته، وتلميذه الآخر أبو عبد الله ابن زمرك الشاعر الوشاح يتهمه بالإلحاد، فقرر أن يهرب من الوزارة والإمارة وغرناطة، بل والأندلس كلها، واستأذن سلطانه ابن الأحمر في أن يتفقد الثغور، ورحل تجاه الجنوب يصحبه أحد أبنائه وبعض حرسه، فلما وصل إلى جبل طارق وكان ذلك سنة 773هـ استقبله حاكمها -وكان جبل طارق حينئذ تابعًا لسلطان المغرب "عبد العزيز المريني" الذي كان

طور بواسطة نورين ميديا © 2015