الخطيب إلى العاصمة حيث يعيش أبوه فيها يحتل مركزًا مرموقًا في قصر السلطان محمد بن إسماعيل أميرها، وحيث تتجمع في المدينة آنذاك صفوة علماء الأندلس في مختلف فنون المعرفة وفروعها، فدرس الفتى ابن الخطيب علوم الدين من شريعة وفقه وعلوم اللغة من نحو وصرف، وعلوم التاريخ من أحداث وأخبار، وفنون الأدب من بدائع النثر وفرائد الشعر، ثم أقبل على قراءة الفلسفة وتعلم الطب وكانت الفسلفة والطب توأمين آنذاك، من يدرس هذه يدرس تلك1. ولما مات أبوه في معركة "طريف" المشهورة التي هزمت فيها جيوش المسلمين أمام جيوش النصارى سنة 741هـ ألحقه الرئيس الوزير الكاتب الشاعر أبو الحسن ابن الجياب بالوظيفة التي كان يحتلها أبوه في ديوان الإنشاء بالقصر السلطاني ولم يكن عمره حينئذ يتعدى الثامنة والعشرين.

وينتقل الملك إلى أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل، وهو إنسان مستنير مثقف عالم شاعر، وكان إذ ذاك صغيرًا لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره ولكن الأخلاق والشيم والمروءات لا ترتبط بعمر أو سن، وإنما هي شمائل تورث وخلائق تكتسب.

ومن عادة الملوك والرؤساء المثقفين أن يختاروا وزراءهم ورجالهم من المثقفين مثلهم -فما وجدنا في التاريخ القديم والحديث والمعاصر حاكمًا جاهلًا إلا وقد أحاط نفسه بمن هم أجهل منه- ولذلك كان من الطبيعي أن يكون الرجل النابه المثقف لسان الدين وزيرًا لأبي الحجاج يوسف راعي الآداب وحامي الفنون، ثم لا يلبث لسان الدين أن يصبح سفيرًا للسلطان جامعًا السفارة إلى الوزارة ينتقل إلى الملوك في المهمات الجدلية، ويسفر إليهم في الأحداث الجليلة.

وحين مات السلطان يوسف سنة 755هـ ولي الأمر من بعده ولده محمد الغني بالله الذي قرب إليه لسان الدين وندبه للوصاية على الأمراء والقصر، وشأن بلاط الملوك في أكثر الأزمنة لا تكاد تخلو ساحاتهم من دس ووقيعة وانقلاب، فيقوم إسماعيل بن يوسف بانقلاب ضد أخيه محمد، ويتدخل سلطان المغرب ابن سالم لينقذ رأس كل من السلطان المخلوع ووزيره لسان الدين، ويعبر السلطان السابق والوزير إلى شاطئ المغرب، فيحتفل سلطانها بهما احتفالًا عظيمًا، وينشد لسان الدين في الاحتفال قصيدة نفيسة، وكان حسن الإلقاء بارع الإنشاد يقول فيها2:

قصدناك يا خير الملوك على النوى ... لتنصفنا مما جنى عبدك الدهر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015