الاثنين. وكان كلاهما -أي الخطيب والشاعر- في مقام التقديم أو التأخير تبعًا للظرف الذي تعيشه القبيلة، فإن كانت طبيعة الظروف التي تجتازها أحوج إلى الشاعر منها إلى الخطيب كان الشاعر مقدمًا، وإن كانت الظروف التي بها محتاجة الخطيب أكثر من احتياجها الشاعر قدمت الخطيب.

وإذن فقد كان النتاج الثقافي للأمة العربية قبل الإسلام محصورًا في الشعر والخطابة ولا شيء غير ذلك من فنون القول، والأمة العربية كانت أمة غير كاتبة، الأمر الذي بسببه لم يسجل نتاجها من الشعر والخطب بالكتابة، وإنما اعتمد في ذلك على الرواية، فكان لكل شاعر رواية يحفظ كل شعره ويرويه عنه. وأحسب أن الأمر كان أيضًا فيما يتعلق بالخطيب، وإذن فقد كان التسجيل محكومًا بالذاكرة التي كان يتمتع بها الراوي والتي قد تتعرض للشيخوخة فيضيع الكثير من الكنوز التي وعت وفنون القول التي حفظت. وليس من شك في أنه كلما قدم العهد بالشاعر وزمانه كان المأثور من شعره أقل كثيرًا من القدر الذي أنشأه، وكذلك كان الأمر فيما يتعلق بالخطباء، فكان ما وصلنا من تراثهم هو الجزء وليس الكل، وما روي عنهم هو الأقل وليس الأكثر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد قامت فئة تشكك في التراث العربي بحكم أنه مروي وليس مسجلًا مسطورًا وذهب الأمر بالبعض منهم أن تقولوا كثيرًا حول التراث الأدبي الجاهلي، فمن قائل إن أكثره منحول، ومن قائل إنه منتحل كله وكتبوا في ذلك البحوث العديدة ودبجوا المقالات الطوال، وبالتالي قامت جماعة أخرى من الغيورين على تراثهم الثمين، تدحض ادعاءات الفئات الأولى أو افتراضاتها بالمنطق حينًا وبالبرهان حينًا آخر.

السبب في ذلك كله أن العرب لم تكن أمة كاتبة، وأمة غير كاتبة لا تستطيع أن تكون ذات حضارة فكرية أصيلة؛ لأن هذه الحضارة بحاجة إلى التسجيل والتسطير، فلما جاء الإسلام وشجع على التعلم ومعرفة القراءة والكتابة أصبحت هذه الأمة ومن اندرج تحت لواء العقيدة الجديدة من المسلمين تشكل أرقى مبادئ فكرية وأسمى حضارة أزلية. وقبل مرور قرنين من الزمان كانت من السعة في الحدود بحيث شملت ما يقارب نصف مساحة الكرة الأرضية المعروفة في ذلك الزمان، ومن الرحابة في العقول بحيث أغنت الفكر البشري بالعديد من المؤلفات والكتب في أكثر ميادين العطاء العقلي من ديني ودنيوي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015