مثل الباب الأربعين وعنوانه يطول هكذا: فيما قيل في من يدنو من إخوانه إذا استغنى ويتباعد إذا افتقر، ويزيده غناه إكرامًا لمن افتقر. أو مثل الباب المائة والستين وعنوانه بهذا الطول: فيما قيل في إسعاف الكريم بحاجته، وترك احتقاره إن تحامل الدهر عليه رجاء أن تعود العاقبة بما يسره. وقس على ذلك كثير.
ثانيًا: جعل البحتري الأخلاق والتربية -فيما نرجح- هدفًا من أهدافه في جميع اختياراته، وذلك أن حماسته تخلو من الشعر الماجن أو الملح التي تخدش الحياء كتلك التي أورد أبو تمام كثيرًا منها في حماسته. إننا إذا نظرنا إلى أبواب حماسيات البحتري وجدنا بينها الكثير الوفير مما يحفز على فعل المكارم، ويجنب التردي في المزالق، فمن بين أبواب كتابه تلك الموضوعات: ما قيل في إخلاف الوعد، ما قيل في صحة المودة وحفظ الإخاء، ما قيل في إخلاص المودة وإدامتها، ما قيل في رعاية الأمانة وترك الخيانة، ما قيل في ذم عاقبة البغي والظلم، ما قيل في الحرص والشره وذمهما، ما قيل في المطامع وإنها تذل صاحبها، ما قيل في جر صغير الأمر للكبير، ما قيل في الغدر والخيانة وذمهما، ما قيل في الوفاء وحمده، ما قيل في إنجاز الوعد وترك المطل، هذا قليل من كثير من أبواب الأخلاق والشمائل في حماسة البحتري، وكل باب من هذه الأبواب يحتوي على العديد من النماذج الشعرية التي اصطلح بعض الشرح على تسميتها حماسات.
هذا وكثير من الحماسات تزيد على عشرين بيتًا1 وأحيانًا كثيرة تكون الحماسية بيتًا واحدًا، وهو منهج مشابه لأبي تمام في هذا النحو حسبما مر عند حديثنا عن حماسة أبي تمام.
ثالثًا: خص البحتري شعر المرأة العربية بباب طويل هو الباب الأخير من حماسته ولكنه اقتصر على إيراد المراثي من شعرهن، وهي مراث من الشعر الرفيع لشاعرات بعضهن معروفات مشهورات لجمهرة الدارسين المتخصصين مثل ليلى بنت طريف المعروفة بالفارعة، ومثل الخنساء، وليلى الأخيلية، وبعض آخر منهن غير مشهورات مثل عمرة الهذلية، وطيبة الباهلية وسلمى بنت الأحجم، وزينب بنت الطثرية، وأروى بنت الحباب، وقتيلة بنت النضر بن الحارث، وكلهن يرثين أبا أو أخا أو زوجًا باستثناء ليلى الأخيلية فإن رثاءها كان في صاحبها توبة الحميري، وقصتهما مشهورة معروفة.
وإذا كانت قصائد ليلى الأخيلية والفارعة والخنساء معروفة بالجودة والجزالة وقوة السبك، فإن ذلك لا يعني أن الأخريات أقل منهن جودة شعر وبراعة قول. فهذه طيبة الباهلية ترثي زوجها فتقول2: