إن شعر القبائل من الكثرة بمكان والوفرة بمكان، ما من قبيلة إلا وكان لها عدد من الشعراء المبرزين فضلًا عن أولئك الذين كانوا يجيدون الشعر في نطاقها دون أن ينالوا حظًّا من الشهرة أو قسطًا من الاهتمام.
ومع ذلك فقد اهتم الرواة بجمع شعر القبائل يجوسون خلال ديارهم يسمعون أخبارهم ويروون أشعارهم، وأشهر من نعرف من جامعي شعر القبائل الأصمعي، وأبو عمرو إسحاق بن مرار الذي كان يجاور شيبان للتأدب فيها فنسب إليها وصار فيما بعد من الأئمة الأعلام في اللغة والشعر والرواية، ولكن نال من شأنه في الأخيرة اشتهاره بشرب النبيذ.
والذي يعنينا من شأن أبي عمرو أنه كان أحد المهتمين بجمع شعر القبائل. فلقد جمع وحده شعر نيف وثمانين قبيلة، وكان كلما فرغ من شعر قبيلة وقدمه للناس كتبًا مصحفًا وجعله بمسجد الكوفة حتى كتب نيفًا وثمانين مصحفًا بخط يده1.
ولم يكن جمع شعر القبائل هو العمل العلمي الوحيد الذي عمله أبو عمرو، فإن له أعمالًا أخرى علمية مجيدة منها "كتاب الخيل"، "وكتاب اللغات" ويعرف أيضًا بكتاب الحروف وأحيانًا أخرى يعرف بكتاب الجيم، وله أيضًا "كتاب النوادر الكبير"، و"كتاب غريب الحديث"، و"كتاب النخلة"، و"كتاب الإبل، و"كتاب خلق الإنسان".
ولا يستكثرن أحدهذه الأعمال -وخصوصًاهذا القدر الضخم من شعر القبائل- لأنه كان هو وأقرانه العلماء من أولي العزم والقوة. هذا فضلًا عن كونه وهب عمرًا مديدًا مباركًا فلقد عاش مائة وستة عشر عامًا، وقيل مائة وعشرة أعوام وتوفي سنة 123هـ في اليوم الذي مات فيه أبو العتاهية وإبراهيم الموصلي.