سلف القول إن الشعر كان يحفظ في صدر الشعراء وصدور رواتهم غير مكتوب أو مدون، وكان لكل شاعر صديق يحفظ شعره ويرويه الناس، وكان شعر شاعر ما ينتقل من جيل إلى جيل من خلال الرواية التي كانت صادقة أمينة على الأغلب، اللهم إلا حين كانت ذاكرة الراوية تخونه في بيت أو بيتين في قصيدة بعينها، أو أن تصيبه الشيخوخة فيعتور ذاكرته بعض الضعف، وحتى في هذه الحالة الأخيرة، وقبل أن تشيخ الذاكرة، كانت ذاكرة شابة أخرى تلتقط من الراوية كل ما عنده أو أكثر، وبهذا النهج أمكن المحافظة على قدر غير قليل من الشعر العربي.
وحين شاعت الكتابة بين الناس بدأ الرواة والمتأدبون يسجلون ما في حوافظهم من شعر لهذا الشاعر، أو ذاك أو لشعراء هذه القبيلة أو تلك، فجمعت منتخبات لشعراء أفراد، وقصائد لشعراء القبائل، واختيارات لكبار الشعراء.
وكان أول من أقدم على مثل هذا العمل من الرواة حماد بن سابور بن المبارك الذي يعرفه المتأدبون باسم حماد الراوية الذي توفي على الأرجح سنة 155هـ. لقد كثرت الأخبار حول ضخامة القدر الذي كان يحفظه من شعر الأقدمين، وكان ملوك بني أمية يبعثون إليه في العراق ليزورهم في الشام ويروي لهم مما يحفظ، أو يجيب عما يسألون، وله قصص طريفة مع كل من يزيد وهشام ابني عبد الملك ومع الوليد بن يزيد1.