وجدناها هي نفسها التي نكتبها من اليمين إلى اليسار، وتمضي الرواية، فتقول: إن القاضي الفاضل كان من الذكاء بحيث التقط التحية فرد عليها على الفور بمثلها، قائلًا: دام علا العماد، وهذه الجملة شبيهة بجملة العماد من حيث قراءتها طردًا وعكسًا.
فإذا ما عدنا إلى الخريدة وجدناها تشمل الشعراء الذين كانوا بعد المائة الخامسة إلى السنة 572هـ وهي السنة التي انتهى فيها العماد من تأليفها. ولا ترجع قيمة الخريدة إلى تغطية هذه الفترة من الزمان التي تناهز ثلاثة أرباع القرن وحسب، وإنما تكمن قيمتها في كونها قد غطت المساحة المكانية المترامية الأطراف من الأرض الإسلامية فضمت كل شعراء العراق والعجم والشام، والجزيرة، ومصر، والمغرب، فجعل العماد قسمًا لكل قطر من هذه الأقطار بحيث ضم الكتاب أربعة أقسام، وكل قسم يشتمل على عدة أجزاء، فهناك القسم الخاص ببلاد الشام، والقسم الخاص بمصر وصقلية والمغرب والأندلس، والقسم الخاص بشعراء العراق، والقسم الخاص ببلاد العجم وفارس وخراسان.
ويذكر العماد كل بلدة أو مدينة ويتبعها بشعرائها فيتحدث في قسم الشام عن شعراء حمص وحماة وشيزر، فالمعرة، وحلب، ومنبج، وحران، ويتعدى ذلك فينشئ بابًا يخص به شعراء جزيرة بني ربيعة وديار بكر وما يجاورها. ومن الطريف أنه يلحق شعراء الحجاز وتهامة واليمن بالقسم الثالث الخاص ببلاد الشام.
ولم يقف جهد العماد الأصفهاني عند مجرد الشعر الذي يصل إليه إنما كان يتنقل من مكان إلى مكان، ومن قطر إلى قطر يقابل الشعراء والرواة، ويسمع منهم ويناقشهم، ثم يقوم بعملية تدوينه البارعة.
وإذا كان البيهقي قد ألف ذيلًا على دمية الباخرزي أسماه وشاح الدمية، فإن العماد الأصفهاني قد أنشأ بنفسه ذيلًا لخريدته أسماه "السيل على الذيل"، ولعله في ذلك قد آثر أن يستدرك ما فاته بنفسه بدلًا من أن يستدرك عليه غيره كما فعل البيهقي مع الباخرزي.
وتمر فترة طويلة من الزمان تناهز الأربعة قرون أو أكثر قليلًا قبل أن تستأنف حلقات هذه الموسوعات الرائعة من كتب طبقات شعراء العربية، ولكن قبل أن ننتقل هذه النقلة الواسعة فإن أمرًا على جانب كبير من الخطورة يلفت نظرنا بحيث لا يستطيع أن نهمل ذكره، أو نتفادى خطره، ذلك أننا إذا أمعنا النظر في أسماء ونسبة كبار هؤلاء المؤلفين فإننا سوف نجد الثعالبي منتسبًا إلى "نيسابور"، والباخرزي منتسبًا إلى "باخرز" وهي بلدة من نواحي نيسابور أيضًا، والعماد الأصفهاني منتسبًا إلى "أصفهان" بل هو مولود فيها، تمامًا كما أن الباخرزي مولود في باخرز والثعالبي مولود في نيسابور، وهي قصة إن دلت على شيء فإنما تدل على سحر في أدبنا تغلغل في نفوس كل من اشتغل به من عرب أو عجم، فملك عليهم