وشدت على حدب المهارى رحالنا ... ولا ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الحديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح

المؤسف حقًّا ألا يتنبه ابن قتيبة، وهو من هو علمًا وأدبًا ولماحية إلى ما في هذه الأبيات من رونق اللفظ وعمق المعاني، الأمر الذي جعل طائفة من المتأدبين المعاصرين تسير في دربه وتتخذ من هذا الحكم المجانب للصواب قضية تطلقها على هذه الأبيات دونما تبصر أو تعمق أو مراجعة.

إن جريرًا يريد أن يقول إنه بعد انتهاء أداء الفريضة، وإعداد الرحال والانطلاق في الطريق إلى العودة إلى الأوطان كان الحديث هو الوسيلة لقطع وقت المسافر الذي يشعر بالملل والسأم في الوقت الذي أخذت فيه المطي تنهب الأباطح نهبًا فجعل الصورة مقلوبة أي جعل الأباطح تسيل تحت أعناق المطايا. إنها صورة رائعة المعنى قبل أن تكون عذبة اللفظ حلوة الصياغة.

وابن قتيبة حين يذكر ضرب الشعر الذي جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه ويريد أن يتمثل لذلك يخطئه التوفيق كل الخطأ، إنه يتمثل بالبيت الوحيد الذي قاله لبيد في الإسلام؛ لأن لبيدًا كان كما تعرف في المرتبة العليا بين شعراء الجاهلية، فلما أسلم ترك الشعر وتنسك ولم يؤثر عنه أنه قال شعرًا في الإسلام غير هذا البيت الذي استشهد به ابن قتيبة على الشعر الذي جاد معناه وقصر لفظه، والبيت هو:

ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح

إن البيت في واقعه متكامل الإنشاء والبنيان معنًى ولفظًا.

إن ملاحظاتنا هذه على كل حال لا تنال من قدر ابن قتيبة الناقد ذي البصيرة الثاقبة في تقديم الشعر وتحليل القصيد، إنه يعرض لشعر المديح الذي جرت العادة أن يستفتح بالوقوف على الأطلال والدمن والبكاء، والشكوى، واستيقاف الرفيق، والتشبيب والرحلة إلى الممدوح فيقدم عنه دراسة موجزة ولكنها تنم عن ملكة ناقدة وخبرة عميقة وبصر بعيد وعلم بتقويم الشعر ومعاييره في نطاق الحدود النقدية على زمانه، ولنتركه يقدم هذه الدراسة الممتعة القصيرة بقلمه فيقول1: "وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015