المحدث من الشعر- حتى هممت بروايته"1.

وابن قتيبة لا يذكر الشاعر جزافًا ولا يثبت القصائد أو المقطوعات خبط عشواء وإنما هو يضع لنفسه مبدأ فيما يختار ويقدم من شعر فهو يذكر من رفعه الله بالمديح، ومن رفعه بالهجاء ويحدث عما أودعته العلوم من الأخبار النافعة والأنساب الصحاح، والحكم المساوية لحكم الفلاسفة، "والعلوم في الخيل، والنجوم وأنواعها والاهتداء بها، والرياح وما كان ميسرًا أو جلا، والبروق وما كان منها خلبًا أو صادقًا، والسحاب وما كان منها جهامًا أو ماطرًا وعما يبعث منه البخيل على السماح، والجبان على اللقاء، والداني على السمو".

نحن إذن أمام عالم جليل في التخطيط لما يكتب قبل أن يبتدئ، ووضع المنهج لنفسه قبل أن يندفع في سكب الحبر على صفحات الكتاب، إنه يكتب بترتيب ويؤلف بتنسيق شأنه في ذلك شأن أي عالم محدث أو مؤلف حاذق.

ولكن الأمر لا يقف بابن قتيبة عند حد تخطيط الفكرة وتنسيق المنهج، إنه يعرف حق المعرفة أنه لا ينبغي للمؤلف أن يطرق موضوعًا لا يكون له فيه مشاركة فعالة ودراية مفيدة، وخبرة هادية، ولما لم يكن من الضرورة بمكان لمن يتصدى لدراسة الشعر ونقده أن يكون شاعرًا فقد اقتضت الضرورة أن يكون على علم بأصول النقد وصاحب دربة بأوجه الجيد وأسباب الرديء وطبيعة الحسن ومخبر الرديء، ولذلك فإن ابن قتيبة يقدم دراسة جيدة بمقياس الجودة على زمانه في نقد الشعر، كل ذلك في مستهل كتابه، ويذكر أنه تدبر الشعر فوجده أربعة أضرب: ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه وضرب منه حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، وضرب منه جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، وضرب منه تأخر معناه وتأخر لفظه.

ويضرب ابن قتيبة لكل ضرب من ضروب الشعر هذه التي ذكرها مثالًا بل أمثلة. ونحن إن قبلنا هذا التقسيم من ابن قتيبة فقد لا نتفق معه كثيرًا في الأمثلة التي ضربها تأييدًا لوجهة نظره، فهو -على سبيل المثال- حين يذكر الشعر الذي حسن لفظه فإذا فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى يتمثل بقول جرير:

ولما قضينا من منًى كل حاجةٍ ... ومسح بالأركان من هو ماسح

طور بواسطة نورين ميديا © 2015