هذه الأدواء، وعلى رفع مستوى اللغة العربية من الناحية النفسية، ففخر الناس بها، وتكلموها، وأعطوها حظا أكبر من العناية، ولكن وزارة المعارف -برغم رفعها مستوى اللغة العربية من الناحية النفسية- خضعت للظروف السياسية، فهبطت بمستوى اللغة من الناحية الدراسية، ونتج عن ذلك أن انخفض المستوى التعليمي العام؛ لأن اللغة وهي أكبر وسيلة من وسائل التعليم، ترتفع بمستوى التعليم إذا ارتفع مستواها، وتنخفض به إذا انخفض مستواها.

وعلى هذه الدعوى الأخيرة، أريد أن أبني دعوى أخرى، هي أن خير التلميذين تقبلا للعلم أكثرهما معرفة باللغة التي يتعلم بها؛ وأكثر اللغتين جلبا لأصدقاء الأمة من الأجانب، تلك التي تسهل دراستها، وتقوم على منهج مقبول.

ولقد منيت الدراسات اللغوية العربية مدة طويلة بسمعة الصعوبة، وأحيانا بسمعة التعقيد، يشهد بذلك تلاميذ المدارس من جهة؛ وهؤلاء الذين لم يتخصصوا في اللغة من جهة أخرى، والجانب المستشرقون من جهة ثالثة، ولعل نعت الدراسات العربية هذه النعوت، إنما جاءها لعدم التجديد في منهجها؛ فما ورثناه عن آبائنا من خلط في التفكير اللغوي، لا يزال كما هو لسببين: أولهما الاعتقاد بأن الأوائل قد أتوا بما لا يمكن أن يزيد عليه الأواخر، "وتلك نظرة جعلت الأتراك في مرحلة من المراحل يقفلون باب الاجتهاد، أو بعبارة أخرى يحرمون البحث العلمي تحريما تاما"، والسبب الثاني ضيق النظرة إلى اللغة العربية، واعتبارها مرتبطة بالقرآن احتراما أو امتهانا، وقد أدى ذلك إلى قطع الصلة بينها وبين اللهجات العربية الأخرى القديمة والمعاصرة، وإلى تحريم الترخيص بالإضافة إلى محصولها، حتى إن بعضهم ليلزم استعمال ما جاء في المعاجم فحسب، ولا يسمح للوليد من الكلمات أن يدخل حظيرة الاستعمال اللغوي.

ولم يعدم العالم العربي في مختلف العصور، من يدعو إلى التجديد في منهج الدراسات اللغوية؛ ولعل أول محاولة لها خطرها في هذا الباب، هي محاولة ابن مضاء الأندلسي الظاهري المذهب، الذي دعا إلى اعتبار ما هو مستعمل فحسب من سيغ اللغة، دون الحاجة إلى التقدير والتعليل، وقد كثرت هذه المحاولات في العصر الحديث؛

طور بواسطة نورين ميديا © 2015