أخبرني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: جلسنا يوماً نتذاكر الزهاد والعباد وما بلغ من فصاحتهم حتى ذكرنا ذا النون [(1 فبينا نحن كذلك إذ دخل علينا عمر بن نباتة فقال: فيم تشاجرون؟ قلنا: نتذاكر الزهاد والعباد وما بلغ من فصاحتهم حتى ذكرنا ذا النون ¬1)]. فقال: والله ما رأيت رجلا قط أفصح ولا أورع من محمد بن إدريس الشافعي، رحمة الله عليه. ثم قال: خرجت أنا وهو والحارث بن لبيد لذات يوم إلى الصفا فافتتح الحارث وكان غلاما لصالح المرى فقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} (?) الآية، فرأيت الشافعي قد اضطرب، ثم بكى بكاء شديدا، ثم لم يتمالك أن قال: إلهي، أعوذ بك من مقال الكاذبين وإعراض الغافلين، إليه، لك خضعت قلوب العارفين، وذلَّت هيبة المشتاقين، إلهي، هب لي جودك، وجللني بسترك (?)، واعف عن (?) توبيخي بكرم (?) وجهك يا أرحم الراحمين.
قال: فخرجت إليه وهو بالعراق لأسمع منه فبينا أنا قاعد على الشط أتهيأ للوضوء إذ مر بي رجل فقال: يا غلام، أحسن وضوءك أحسن الله إليك قال: فقفوت أثره فالتفت إلي فقال: يا غلام، ألك من حاجة؟ قلت: تعلمني شيئا لعل الله أن ينفعني به. قال: اعلم أن من صدَق الله نجا، ومن أشفق على دينه سَلِم من الرَّدَى، ومن زهد في الدنيا قرَّت عيناه بما (?) يرى من ثواب الله تعالى غدا. أفلا أزيدك؟ بلى قال: كن في الدنيا زاهدا (?)، وفي الآخرة راغبا، واصدق الله في جميع أمورك تنج بها مع الناجين غدا. قال: فسمعت منه هذه الكلمات.