رد الشبهات التي وجهت في حق الشيخ لقد ضاق خصومه قديما وحديثا به ذرعا ووجهوا ضده الاتهامات:
1 - من ذلك ما افتراه الرحالة ابن بطوطة حيث قال في رحلته في حق شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ونزل درجة من درج المنبر) وقد رد على هذه الفرية الشيخ العلامة: محمد بهجة البيطار (?) بما يلي:
(1) أن ابن بطوطة لم يسمع من ابن تيمية ولم يجتمع به إذ كان وصوله إلى دمشق يوم الخميس التاسع عشر من شهر رمضان المبارك عام ستة وعشرين وسبعمائة (726هـ) وكان سجن شيخ الإسلام في قلعة دمشق أوائل شهر شعبان من ذلك العام ولبث فيه إلى أن توفاه الله تعالى ليلة الإثنين لعشرين من ذي القعدة عام ثمانية وعشرين وسبعمائة هجرية. فكيف رآه ابن بطوطة يعظ على منبر الجامع وهو إذ ذاك في السجن.
(2) لم يكن شيخ الإسلام ابن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع وإنما كان يجلس على كرسي، قال الحافظ الذهبي: وقد اشتهر أمره وبعد صيته في العالم وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه.
(3) إن هذا الذي ذكره ابن بطوطة يخالف ما ذكره الشيخ في جميع كتبه من أنه يجب إثبات أسماء الله وصفاته إثباتا بلا تشبيه وتنزيهها عن مشابهة صفات المخلوقين تنزيها بلا تعطيل، وهذا الذي ذكره ابن بطوطة تشبيه نهى عنه شيخ الإسلام ويحذر منه غاية التحذير.
(4) لشيخ الإسلام ابن تيمية في موضع النزول كتاب مستقل اسمه (شرح حديث النزول) وهو مطبوع ومتداول وليس فيه ما ذكره ابن بطوطة، بل فيه ما يرد عليه ويبطله من أصله والحمد لله رب العالمين.
2 - قالوا عنه إنه يخالف الإجماع، وقد أجاب عن هذه الشبهة الشيخ محمد بهجة البيطار (?) بقوله: اشتهر ابن تيمية بمسائل أثرت عنه وظن كثير من الناس أنه انفرد بها عن غيره. بل ظنوا أنه خالف في بعضها الإجماع وهي أمور اجتهادية يقع في مثلها الخلاف بين العلماء ومن المفروغ منه أن ابن تيمية قد بلغ رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية.
وأنه كان يفتي الناس بما أدى إليه اجتهاده (?) وأنه موافق في فتاواه بعض الصحابة أو التابعين أو أحد الأئمة الأربعة أو غيرهم ممن عاصرهم أو جاء قبلهم أو بعدهم.
وقد قال العلامة برهان الدين بن الإمام محمد المعروف بابن قيم الجوزية: لا نعرف مسألة خرق فيها الإجماع، ومن ادعى ذلك فهو إما جاهل وإما كاذب، ولكن ما نسب إليه الانفراد به ينقسم إلى أربعة أقسام:
الأول: ما يستغرب جدا فينسب إليه أنه خالف فيه الإجماع لندور القائل به وخفائه على الناس لحكاية بعضهم الإجماع على خلافه.
الثاني: ما هو خارج عن مذاهب الأئمة الأربعة وقال به بعض الصحابة أو التابعين أو السلف والخلاف فيه محكي.
الثالث: ما اشتهرت نسبته إليه مما هو خارج عن مذهب الإمام لكن قد قال به غيره من الأئمة وأتباعهم.
الرابع: ما أفتى به واختاره مما هو خلاف المشهور في مذهب أحمد وإن كان محكيا عنه وعن بعض أصحابه، انتهى من كتاب حياة شيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ محمد بهجة البيطار ص54-55.
قلت: وبهذا يعلم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم ينفرد بقول لم يقم عليه دليل من الكتاب والسنة ولم يقل به أحد من الأئمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ومن أراد الحق في هذا فلينظر في مجموع فتاواه الكبير الذي بلغ خمسة وثلاثين مجلدا وطبع عدة مرات ووزع على نطاق واسع في العالم الإسلامي ولا يصدق ما أشاعه عنه المغرضون فإن قول الخصم غير مقبول على خصمه، وإنما يرجع إلى كلام الشخص نفسه ويحكم عليه بموجبه، واليوم والحمد لله كتب شيخ الإسلام وفتاواه قد انتشرت واشتهرت وهي تدحض ما افتراه عليه خصومه من الأكاذيب، ومن رجع إلى هذه المؤلفات القيمة أدرك أنه مفترى عليه ووجد في هذه المؤلفات العلم الغزير الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يسع المنصف الخالي من التعصب الأعمى إلا أن يقر له بالعلم والفضل.
3 - قالوا إنه أفتى بفتاوى تخالف فتاوى الأئمة أهل السنة والجماعة، وهذا من الكذب على شيخ الإسلام ابن تيمية فهو لم ينفرد بقول يخالف به الأئمة جميعا، سواء الأئمة الأربعة أو أئمة السلف الذين هم قبل الأربعة كما سبق بيانه فلم يقل قولا إلا وله سلف فيه من الأئمة، وأهل السنة والجماعة، اللهم إلا أن يريد هذا القائل بأهل السنة والجماعة جماعة الأشاعرة والماتريدية - فهذا اصطلاح خاطئ؛ لأن المراد بأهل السنة والجماعة حقا من كان على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم الفرقة الناجية وهذا الوصف لا ينطبق إلا على الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم واتبع طريقهم، والأشاعرة والماتريدية خالفوا الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة في كثير من المسائل الاعتقادية وأصول الدين فلم يستحقوا أن يلقبوا بأهل السنة والجماعة وهؤلاء لم يخالفهم شيخ الإسلام ابن تيمية وحده بل خالفهم عامة الأئمة والعلماء الذين ساروا على نهج السلف.
وهذه الفتاوى التي قالوا أن الشيخ خالف فيها فتاوى الأئمة أهل السنة والجماعة هي:
(أ) أنه يرى جلوس الله على العرش كجلوسه هو وأنه قال ذلك على المنبر في مسجد بني أمية مرارا في دمشق وفي مصر.
وقول هذا الكذب الواضح على شيخ الإسلام ابن تيمية، فشيخ الإسلام في هذه المسألة يثبت ما أثبته الله لنفسه من أنه استوى على العرش استواء يليق بجلاله سبحانه بلا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه كما قال الإمام مالك وغيره: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة"، وإليك ما قال رحمه الله في هذه المسألة من إثبات استواء الله على عرشه مع نفي مشابهة المخلوقين في ذلك حيث قال رحمه الله: (ولله تعالى استواء على عرشه حقيقة وللعبد استواء على الفلك حقيقة وليس استواء الخالق كاستواء المخلوقين. فإن الله لا يفتقر إلى شيء ولا يحتاج إلى شيء بل هو الغني عن كل شيء) (?) فقال رحمه الله (لله استواء) ولم يقل جلوس، وفرق بين استواء الله واستواء الخلق.
(ب) قالوا: إنه يقول: (نزول الله إلى سماء الدنيا كل ليلة كنزوله هو من المنبر) وهذا من الكذب على شيخ الإسلام ومما افتراه عليه ابن بطوطة وقد بينا كذبه في ذلك ولله الحمد، ونحن نسوق عبارة الشيخ رحمه الله في هذه المسألة لما سئل عن حديث النزول وكان من جوابه: (لكن من فهم من هذا الحديث وأمثاله ما يجب تنزيه الله عنه كتمثيله بصفات المخلوقات ووصفه بالنقص المنافي لكماله الذي يستحقه فقد أخطأ في ذلك، وإن أظهر ذلك منع منه، وإن زعم أن هذا الحديث يدل على ذلك ويقتضيه فقد أخطأ أيضا في ذلك) (?) وقل أيضا: (من قال إنه ينزل فيتحرك وينتقل كما ينزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار كقول من يقول إنه يخلو منه العرش فيكون نزوله تفريغا لمكان وشغلا لآخر فهذا باطل يجب تنزيه الرب عنه) (?)
(ج) قالوا: إنه يحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول: هذا أيضا من الكذب الواضح، فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا زيارة غيره من القبور إذا وقعت هذه الزيارة وفق الأدلة الشرعية بأن يكون الزائر رجلا والقصد منها التذكير والاعتبار والدعاء للموتى من المسلمين بالرحمة والمغفرة، وكانت هذه الزيارة بدون سفر، فإن كانت زيارة القبور لقصد التبرك بها وطلب المدد وقضاء الحوائج وتفريج الكربات من الموتى، أو كانت هذه الزيارة تحتاج إلى سفر أو الزائر من النساء فشيخ الإسلام ليس وحده الذي يمنع من هذه الزيارة بل يمنع منها كل المحققين من علماء السلف والخلف، لأنها زيارة شركية أو بدعية، قد جاءت الأدلة من الكتاب والسنة بمنعها، وإليك ما قاله في هذه المسألة: قال رحمه الله: (فإن زيارة القبور على وجهين: وجه شرعي ووجه بدعي، فالزيارة الشرعية مقصودها السلام على الميت والدعاء له سواء كان نبيا أو غير نبي، ولهذا كان الصحابة إذا زاروا النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه ويدعون له ثم ينصرفون ولم يكن أحد منهم يقف عند قبره ليدعو لنفسه، ولهذا كره مالك وغيره ذلك وقالوا: إنه من البدع المحدثة.
ولهذا قال الفقهاء: إذا سلم المسلم عليه وأراد الدعاء لنفسه لا يستقبل القبر بل يستقبل القبلة وتنازعوا وقت السلام عليه هل يستقبل القبلة أو يستقبل القبر فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة، وقال مالك والشافعي وأحمد: يستقبل القبر، وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا قبري عيدا» وقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا» وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» ولهذا اتفق السلف على أنه لا يستلم قبرا من قبور الأنبياء وغيرهم ولا يتمسح ولا يستحب الصلاة عنده ولا قصده للدعاء عنده أو به، لأن هذه الأمور كانت من أسباب الشرك وعبادة الأوثان كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] قال طائفة من السلف: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم وهذه الأمور ونحوها هي من الزيارة البدعية وهي من جنس دين النصارى والمشركين وهو أن يكون قصد الزائر أن يستجاب دعاؤه عند القبر أو أن يدعو الميت ويستغيث به ويطلب منه أو يقسم به على الله في طلب حاجاته وتفريج كرباته، فهذه كلها من البدع (?)
(د) قالوا: إنه يقول إن التوسل في الدعاء كفر أو شرك، وهذا أيضا من الكذب الصريح على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه لم يحكم على التوسل بأنه كفر أو شرك وإنما كان يفصل في ذلك بين التوسل المشروع والتوسل الممنوع وإليك عبارته في ذلك، ويقول رحمه الله؛ (فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان:
أحدها: التوسل بطاعته (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به.
والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته.
والثالث: التوسل به بمعنى الإقسام به على الله بذاته والسؤال بذاته - فهذا هو الذي لم يكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة أو عن من ليس قوله حجة، وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه إنه لا يجوز، ونهوا عنه حيث قالوا: (لا يسأل بمخلوق ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك) (?) فبين الشيخ أن هذا النوع من التوسل لا يجوز وليس هو من فعل الصحابة ولم يقل إنه كفر أو شرك كما قال هذا الكاذب عليه.
(هـ) قالوا: إنه يكفر الناس الذين لا يتبعون آراءه مثل تكفيره الذين يزورون قبر الرسول وهذا من جنس ما قبله من الأكاذيب، فالشيخ تقي الدين لا يكفر إلا من كفره الله ورسوله بارتكابه ناقضا من نواقض الإسلام كدعاء غير الله من الموتى وغيرهم، ولم يكفر الذين يزورون قبر الرسول صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية كما سبق بيانه.
(و) قالوا: إنه يحرم الطرق الصوفية وحيال هذا الموضوع أنقل عبارة الشيخ رحمه الله في هذا، قال رحمه الله: (الحمد لله: أما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك - إلى أن قال: ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه تنازع الناس في طريقهم، فطائفة ذمت الصوفية والتصوف وقالوا إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام، وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل الطاعة لله ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه، وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة، ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم كالحلاج مثلا (?) .
هذا كلامه رحمه الله في التصوف المعروف في وقته وقبله، أما اليوم فالطرق الصوفية تغيرت ودخلها من البدع والخرافات والشركيات الشيء الكثير، فيجب تركها والابتعاد عنها وملازمة السنة.
4 - قالوا: إنه أفتى بفتاوى تخالف الإجماع وهي كما يلي:
[أ] لا يعتبر الحلف بالطلاق طلاقا وإنما يعتبره يمينا مكفرة. والجواب عن هذا أن نقول أن دعوى الإجماع في هذه المسألة دعوى كاذبة، فإن الشيخ رحمه الله ذكر في هذه المسألة ثلاثة أقوال، وهذا نص كلامه حيث يقول: (إذا حلف بالطلاق أو العتاق يمينا تقتضي حضا أو منعا - كقوله الطلاق أو العتق يلزمه ليفعلن كذا أو لا يفعل كذا أو قوله إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو فعبدي حر ونحو ذلك فللعلماء فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه إذا حنث وقع به الطلاق والعتاق، وهذا قول بعض التابعين وهو المشهور عند أكثر الفقهاء.
والثاني: لا يقع به شيء ولا كفارة عليه، وهذا مأثور عن بعض السلف وهو مذهب داود وابن حزم وغيرهما من المتأخرين، ولهذا كان سفيان بن عيينة شيخ الشافعي وأحمد لا يفتي بالوقوع.
والقول الثالث: أنه يجزئه كفارة يمين (?) .
[ب] قالوا: إنه يعتبر الطلاق الثلاث واحدة إذا قاله الزوج دفعة واحدة.
والجواب: أن هذا لم يخالف فيه الشيخ رحمه الله إجماعا ولم ينفرد به فقد سبقه إليه كثير من الأئمة قال رحمه الله: (وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. مثل الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم مثل طاوس وخلاس بن عمرو ومحمد بن إسحاق وهو قول داود وأكثر أصحابه) (?) قال القرطبي: وشدد طاوس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة ويروى هذا عن محمد بن إسحاق والحجاج بن أرطاة، وقيل عنهما لا يلزم منه شيء وهو قول مقاتل ويحكى عن داود أنه قال لا يقع والمشهور عن الحجاج بن أرطاة وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثا، (?) .
[ج] وقالوا: إنه لا يصحح طلاق الحائض والطلاق في الطهر الذي جامعها فيه، والجواب: أن هذا الطلاق طلاق بدعة وقد اختلف العلماء هل يقع أو لا، فإذا قال الشيخ بعدم وقوعه فإنه لم يخالف بذلك إجماعا كما يدعي هذا المفتري فالمسألة خلافية - قال القرطبي: وقال سعيد بن المسيب في آخرين لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة، (?) .
[د] قالوا: إنه لا يرى قضاء الصلاة المتروكة عمدا، والجواب: أن الموجود من كلام الشيخ (?) في هذه المسألة ما نصه: (وأما من كان عالما بوجوبها وتركها بلا تأويل حتى خرج وقتها المؤقت فهذا يجب عليه القضاء عند الأئمة الأربعة، وذهب طائفة منهم ابن حزم وغيره إلى أن فعلها بعد الوقت لا يصح من هؤلاء، وكذلك قالوا فيمن ترك الصوم متعمدا - والله سبحانه وتعالى أعلم، انتهى. وقال الحافظ (?) على حديث «من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك» قال: وقد تمسك بدليل الخطاب منه القائل: إن العامد لا يقضي الصلاة، لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط فيلزم منه أن من لم ينس لا يصلي. اهـ. فالشيخ إنما حكى الخلاف فقط والمسألة خلافية ليست محل إجماع، والله أعلم.
وقال الشيخ أيضا (?) واختلف الناس فيمن ترك الصلاة والصوم عامدا هل يقضيه؟ فقال الأكثرون يقضيه، وقال بعضهم: لا يقضيه ولا يصح فعله بعد وقته كالحج، انتهى. ولم يزد على حكاية الخلاف.
[هـ] وأنه قال: الذي ينكر الإجماع لا يعتبر كافرا أو فاسقا، وهذا كذب على الشيخ رحمه الله لأنه يحترم الإجماع ويحث على التمسك به وينهى عن مخالفته، قال (?) الحمد لله. . . معنى الإجماع: أن يجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام، إذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، انتهى.
[و] قالوا: إنه يرى أن ذات الله عز وجل مركبة بعضها يحتاج إلى بعض، وأن الله له جسم وله جهات وينتقل من مكان إلى مكان آخر، وهذا من الكذب الشنيع على شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه رحمه الله في كل كتاباته ومؤلفاته يقرر مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان في أسماء الله وصفاته وهو إثباتها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] قال في مطلع الرسالة الحموية الكبرى لما سئل: ما قول السادة العلماء أئمة الدين في آيات الصفات وأحاديث الصفات، فأجاب: الحمد لله رب العالمين. . . قولنا فيها ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره، (?) .
وقال أيضا في موضوع الحركة والانتقال (?) والذي يجب القطع به أن الله ليس كمثله شيء في جميع ما يصف به نفسه، فمن وصفه بمثل صفات المخلوقين في شيء من الأشياء فهو مخطئ قطعا كمن قال إنه ينزل فيتحرك وينتقل كما ينزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار كقول من يقول إنه يخلو منه العرش فيكون نزوله تفريغا لمكان وشغلا لآخر فهذا باطل يجب تنزيه الرب عنه كما تقدم وهذا هو الذي تقوم على نفيه وتنزيه الرب عنه الأدلة الشرعية والعقلية، انتهى.
وقال في موضوع الجسم والتركيب (?) فمن قال إنه جسم وأراد أنه مركب من الأجزاء فهذا قول باطل، وكذلك إن أراد أنه يماثل غيره من المخلوقات فقد علم بالشرع والعقل أن الله ليس كمثله شيء في شيء من صفاته، فمن أثبت الله مثلا في شيء من صفاته فهو مبطل، ومن قال أنه جسم بهذا المعنى فهو مبطل. ومن قال إنه ليس بجسم بمعنى أنه لا يرى في الآخرة ولا يتكلم بالقرآن وغيره من الكلام ولا يقوم به العلم والقدرة وغيرهما من الصفات ولا ترفع الأيدي إليه والدعاء ولا عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه ولا يصعد إليه الكلم الطيب ولا تعرج الملائكة والروح إليه فهذا قول باطل، وكذلك كل من نفى ما أثبته الله ورسوله وقال إن هذا تجسيم فنفيه باطل وتسمية ذلك تجسيما تلبيس منه. إلى أن قال: بل لم ينطق كتاب ولا سنة ولا أثر من السلف بلفظ الجسم في حق الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا فليس لأحد أن يبتدع اسما مجملا يحتمل معاني مختلفة لم ينطق به الشرع ويعلق به دين المسلمين. انتهى.
وقال أيضا: وهذه الألفاظ المجملة المحدثة النافية مثل لفظ: (المركب) و (المؤلف) و (المنقسم) ونحو ذلك قد صار كل من أراد نفي شيء مما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات عبر بها عن مقصوده. فيتوهم من لا يعرف مراده أن المراد تنزيه الرب الذي ورد به القرآن وهو إثبات أحديته وصمديته، ويكون قد أدخل في تلك الألفاظ ما رآه هو منفيا وعبر عنه بتلك العبارة وصفا له واصطلاحا اصطلح عليه هو ومن وافقه على ذلك المذهب، وليس ذلك من لغة العرب التي نزل بها القرآن ولا من لغة أحد من الأمم ثم يجعل ذلك المعنى هو مسمى الأحد والصمد والواحد ونحو ذلك من الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة، (?) وبهذه المنقولات من كلام الشيخ رحمه الله ظهر بطلان ما نسبه إليه أعداؤه الكذابون من هذه الأباطيل، والحمد لله.
[ز] قالوا: إنه يرى أن القرآن حديث ليس بقديم، والجواب: أن نسوق عبارة الشيخ رحمه الله في هذا الموضوع، قال (?) إن السلف قالوا: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وقالوا: لم يزل متكلما إذا شاء، فبينوا أن كلام الله قديم أي جنسه قديم لم يزل، ولم يقل أحد منهم إن نفس الكلام المعين قديم، ولا قال أحد منهم القرآن قديم، بل قالوا إنه كلام الله منزل غير مخلوق، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته كان القرآن كلامه وكان منزلا غير مخلوق ولم يكن مع ذلك أزليا قديما لقدم الله وإن كان الله لم يزل متكلما إذا شاء فجنس كلامه قديم، فمن فهم قول السلف وفرق بين هذه الأقوال زالت عنه الشبهات في هذه المسائل المعضلة التي اضطرب فيها أهل الأرض انتهى.
فتبين بهذا أن نفي القدم عن القرآن ليس رأيه وحده كما يزعم المفترون، وإنما هو رأي سلف هذه الأمة قاطبة، وأن هناك فرقا بين جنس الكلام وأفراد الكلام والله أعلم.
[ح] قالوا: إنه يقول بقدم العالم، وهذا من الكذب الصريح على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه لا يقول بقدم العالم، وإليك عبارته رحمه الله في إبطال هذا القول ورده قال (?) فإن الرسل مطبقون على أن كل ما سوى الله محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن ليسمع شيء قديم بقدمه، وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والعقول تعلم أن الحوادث لا بد لها من محدث، وفي الجزء الثاني من هذا المجموع المبارك في الصفحة (188) صرح بتكفير من قال بقدم العالم.
[ط] قالوا: إنه يقول إن الأنبياء غير معصومين، والجواب: أن هذا كذب صريح وبهتان واضح، فان شيخ الإسلام رحمه الله يقرر عصمة الأنبياء ويثبتها وهذا نص عبارته في هذا الموضوع حيث يقول: (إن الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة، ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه. إلى أن قال: وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع، هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع؟ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها، أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها، أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط، وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث، أو لا؟ والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضع، والقول الذي عليه جمهور الناس وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا (?) .
وهكذا والحمد لله وجدنا في كلام الشيخ ردا على كل ما افتراه عليه خصومه ونفيا لما نسبوه إليه.
وهذا مما يدل على غزارة علمه وإمامته، ونحن لا ندعي له العصمة فهو كغيره من الأئمة يخطئ ويصيب، قال الإمام ابن كثير في ترجمته له (?) وأثنى عليه وعلى علومه جماعة من علماء عصره مثل القاضي الخوبي وابن دقيق العيد وابن النحاس والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري وابن الزملكاني وغيرهم ووجدت بخط ابن الزملكاني أنه قال: اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهتها، وأن له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدين. . . إلى أن قال ابن كثير: وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطئ ويصيب ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطؤه أيضا مغفور له كما في صحيح البخاري: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» فهو مأجور، وقال الإمام مالك بن أنس: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر، انتهى (?) .
وكما قلنا قريبا إن مؤلفات هذا العالم موجودة ومبذولة لكل من أرادها فمن أراد أن يعرف الحقيقة بلا مكابرة فليطالعها ولا يستمع لما يقوله عنه خصومه وحساده والمغرضون المضللون فإن العدل والإنصاف أن تحكم على الشخص من واقع كلامه المذكور في كتبه، لا من كلام خصومه.
أعماله وجهاده: ظهر شيخ الإسلام في عصر قد اشتدت فيه غربة الإسلام وتفرقت كلمة المسلمين وظهرت الفرق المخالفة لما كان عليه السلف الصالح في العقائد والفروع وخيم الجمود الفكري والتقليد الأعمى فأثر في الجو العلمي، ظهرت فرق الشيعة والصوفية المنحرفة والقبورية ونفاة الصفات والقدرية وطغى علم الكلام والفلسفة حتى حلا محل الكتاب والسنة لدى الأكثرية من المتعلمين في الاستدلال هذا كله في داخل المجتمع الإسلامي في ذلك العصر، ومن خارج المجتمع تكالب أعداء الإسلام فغزوا المسلمين في عقر دارهم فجاءت جيوش التتار تداهم المسلمين وتفتك بهم، في هذا الجو المعتم عاش شيخ الإسلام ابن تيمية ضياء لامعا بعلمه الأصيل الغزير يدرس للطلاب ويؤلف الكتب والرسائل ويفتي في النوازل والمسائل، ويناظر المنحرفين وينازل الفرق والطوائف، فيرد على الشيعة والقدرية ويرد على علماء الكلام والفلاسفة، ويرد على المعطلة والمئولة في الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، ويرد على الصوفية المنحرفة وعلى القبوريين والمبتدعة، وينازل أهل الجمود الفقهي والخمول الفكري برد الفقه إلى أصوله الصحيحة وتزييف الزائف حتى أعاد للشريعة نقاءها وإلى العلوم الشرعية صفاءها. يظهر ذلك في مؤلفاته التي خلفها ثروة علمية هائلة، وإلى جانب مجهوده العلمي العظيم شارك في الجهاد في سبيل الله فحمل السلاح وخاض المعارك ضد التتار عدة مرات مما كان له أطيب الأثر في تقوية معنوية المجاهدين حتى انتصروا على عدوهم، وقد تخرج على يد هذا العالم الجليل أئمة من طلابه حملوا الراية من بعده منهم الإمام ابن القيم والإمام ابن كثير والحافظ الذهبي والحافظ ابن عبد الهادي وغيرهم ممن أخذوا عنه العلم ونشروه في الآفاق بما ألفوه من المؤلفات القيمة التي تزخر بها المكتبات الإسلامية اليوم، فجزى الله شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ونفعنا بعلومه، ولما قام بهذا الواجب العظيم غاظ خصومه فرمته كل طائفة من الطوائف المنحرفة بلقب سيئ تريد بذلك صد الناس عن دعوته وتشويه علمه، فنفاة الصفات قالوا إنه مجسم لأن إثبات الصفات عندهم تجسيم.
ومتعصبة الفقهاء والمبتدعة قالوا إنه خرق الإجماع، لأن أخذ القول الراجح بالدليل المخالف لما هم عليه ورد البدع خرق للإجماع عندهم، وغلاة الصوفية والقبوريون قالوا إنه يبغض الأولياء ويكفر المسلمين ويحرم زيارة القبور لأن الدين عندهم هو التقرب إلى الأولياء والصالحين وتعظيم مشايخ الطرق الصوفية واتخاذهم أربابا من دون الله والغلو في تعظيمهم بصرف العبادة إليهم، هذا موقف هذه الطوائف من دعوة شيخ الإسلام وهو موقف يتكرر مع كل مصلح ومجدد يدعو إلى دين الله الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ونبذ ما خالفه من دين الآباء والأجداد وعادات الجاهلية، وليس هذا بغريب فقد قوبلت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل بأعظم من هذا وقيل عنه إنه ساحر كذاب وإنه شاعر مجنون إلى غير ذلك من الألقاب السيئة التي يراد بها الصد عن دين الله والبقاء على دين الشرك الذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، فلشيخ الإسلام وإخوانه من الدعاة إلى الله أسوة بنبيهم ولهؤلاء المنحرفين سلف من المشركين والمكذبين، ولكن العاقبة للمتقين.
فهذه كتب شيخ الإسلام تأخذ طريقها إلى أيدي كل من يريدون الحق ويتنافسون في الحصول عليها والتنقيب عن المفقود منها لإخراجه للناس، فعليك أيها المسلم الناصح لنفسه أن لا تلتفت إلى أقوال المرجفين في حق هذا العالم المجدد المجاهد وأن تنظر إلى أقواله هو لا إلى ما يقال عنه لتصل إلى الحقيقة: {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] هذا وقد وصلت كتب هذا العالم المجاهد إلى مجدد القرن الثاني عشر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب حيث تخرج عليها وانتفع بها فإلى التعرف على تلك الشخصية في الصفحات التالية: