من مشاهير المجددين في الإسلام تقديم الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على عبده ورسوله وصفوته من خلقه وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين أما بعد:
فقد اطلعت على ما كتبه صاحب الفضيلة الدكتور صالح الفوزان المدرس بالمعهد العالي للقضاء بالرياض في ترجمة للإمامين العظيمين شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي الحنبلي المجدد لما اندرس من معالم الإسلام في الجزيرة العربية في النصف الثاني من القرن الثاني عشر رحمهم الله جميعا رحمة واسعة وأسكنهما فسيح جناته وأجزاهما عن دعوتهما إلى الله وعن جهادهما في سبيله أحسن ما جزا به المحسنين فألفيتها ترجمة موجزة وافية بالمقصود من التعريف بحال الشيخين وما بذلاه من الجهود العظيمة في بيان حقيقة الإسلام والدعوة إليه والتعريف بالعقيدة الصحيحة التي سار عليها سلف الأمة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعن أتباعهم بإحسان وفي بيان الرد على خصومهما وكشف الشبهات التي أوردوها وإيضاح ذلك بأوضح عبارة وألخص إشارة فجزاه الله خيرا وضاعف مثوبته وجعلنا وإياه وسائر إخواننا من دعاة الهدى وأنصار الحق إنه خير مسئول. ومن تأمل مؤلفات الشيخين ورسائلهما عرف حقيقة دعوتهما وسلامة عقيدتهما وأنهما قد سارا على الصراط المستقيم والمنهج القويم الذي سار عليه سلف الأمة وأئمتها وعلم نصحهما لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وعلم أيضا شرحهما للعقيدة الصحيحة وبيانهما أقسام التوحيد الثلاثة التي جهلها الأكثرون وظنوا أنما كان عليه كفار العرب من قريش وغيرهم من الاعتراف بتوحيد الربوبية هو الدين الحق وهو حقيقة الإسلام جهلا منهم وتقليدا لعباد الأصنام أصحاب القبور والحق أن توحيد الربوبية وحده هو الاعتراف بأفعال الرب سبحانه من كونه الخالق والرازق والمدبر لأمور الخلق وغير ذلك من أفعاله سبحانه لا يدخل من اعترف به في الإسلام كما أن أهل الجاهلية لم يدخلوا في الإسلام بذلك وقد أخبر الله عنهم عز وجل أنهم قد اعترفوا بذلك كما في قوله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] وقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وقال عز وجل: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية وهو الإقرار بأفعال الرب سبحانه كما تقدم وإنما كان كفرهم لشركهم في العبادة وعدم توحيد الله بها واتخاذهم الوسائط والشفعاء في ذلك.
كما قال عز وجل في سورة الصافات: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ - وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا} [الصافات: 35 - 36] وقال سبحانه في سورة ص: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ - أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 4 - 5] بين سبحانه في هذه الآية إنكار المشركين لتوحيد العبادة واستكبارهم عن الالتزام به كما أخبر سبحانه في آيات أخرى لاتخاذهم الشفعاء والوسطاء بينهم وبين الله في طلب حوائجهم فقال عز وجل في سورة يونس: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ثم رد عليهم بقوله عز وجل: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] وقال عز وجل في سورة الزمر: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ - إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 1 - 3] فأبان سبحانه في هذه الآيات أنه أنزل الكتاب من عنده سبحانه وهو القرآن الكريم وهو كلامه عز وجل وأنه أنزله بالحق وأمر نبيه أن يعبد الله مخلصا له الدين وهذا الأمر خرج مخرج الخصوص والمراد العموم له ولأمته صلى الله عليه وسلم ولهذا قال بعده: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3]
ثم أنكر على المشركين اتخاذهم الأولياء من الرسل والأنبياء والصالحين وسائط يعبدونهم من دونه ويزعمون أنهم يقربونهم إلى الله بذلك زلفى ثم أكذبهم الله سبحانه في هذا الزعم بقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] فأوضح عز وجل بهذا كذبهم فيما زعموا وكفرهم فيما فعلوا من اتخاذهم الأولياء آلهة مع الله يعبدونهم معه للدعاء والخوف والرجاء والذبح والنذر وغير ذلك والآيات في هذا المعنى كثيرة في كتاب الله عز وجل.
كما أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة وسيرته المعلومة في دعوة أهل مكة وغيرهم إلى التوحيد وإنكاره عليهم ما هم عليه من الشرك وقتالهم على ذلك في غزوة بدر وأُحد وغيرهما كل ذلك يدل أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام ولم يعصم دماءهم وأموالهم وإنما يحصل الدخول في الإسلام بالاعتراف بتوحيد الألوهية وإخلاص العبادة لله عز وجل وحده مع الإيمان بتوحيد الربوبية ومع الإيمان به صلى الله عليه وسلم والإيمان بجميع ما جاء به والإيمان بأسماء الله سبحانه وصفاته كما جاءت في النصوص مع اعتقاد أنها حق وأنها ثابتة لله سبحانه على الوجه اللائق به عز وجل من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل كما قال الله سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ - اللَّهُ الصَّمَدُ - لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] وقال سبحانه في سورة الشورى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]
وقد عني الشيخان رحمة الله عليهما شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب بهذه المطالب العظيمة في دعوتهما وفي مؤلفاتهما وأوضحا للناس حقيقة ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام ولا سيما خاتمهم وإمامهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أقسام التوحيد وأنواع الشرك وأقاما على ذلك البراهين النقلية من الكتاب والسنة والبراهين العقلية الصريحة الصحيحة على صحة ما دعت إليه الرسل وعلى صحة ما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما دعا إليه أمته وردا في مؤلفاتهما ومجالسهما العامة والخاصة على خصوم الإسلام وكشفا الشبه التي يروجها أعداء الله، وكل من راجع مؤلفاتهما وتأمل ما أوضحناه فيها - طالبا للحق متجردا من الهوى - علم صحة معتقدهما وسلامة سيرتهما وأنهما قد سارا على منهج السلف الصالح وعلم براءة شيخ الإسلام ابن تيمية مما افترى عليه أعداؤه من كونه على خلاف مذهب السلف بل يعلم المنصف إذا قرأ مؤلفاته أنه هو الذي نشر مذهب السلف ودعا إليه ونصره بقلمه ولسانه وسنانه، وقد انتفعت الأمة الإسلامية بكتبه انتفاعا عظيما وشهد له أئمة العلم في زمانه وبعده من ذوي الإنصاف والعدالة أنه على طريقة السلف الصالح وأنه قد نصر دين الله بعلمه ولسانه ورد على خصوم الإسلام وأبان باطلهم وكشف شبههم بأساليب واضحة وبراهين قاطعة وحجج نيرة وقد جعل الله له لسان صدق في العالمين وثناء عاطرا بين العلماء المهتدين والأخيار الصالحين رحمه الله رحمة واسعة ورفع درجته في المهديين وجزاه عن جهاده ودعوته وصبره أحسن ما جزى به عباده المخلصين وأولياءه الناصرين دينه الذابين عن سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا من تدبر كتب الإمام محمد بن عبد الوهاب وسيرته ودعوته علم بذلك أنه قد سار سيرة هذا الإمام قبله على نهج السلف الصالح وأئمة الهدى في الدعوة إلى الله سبحانه وبيان حقيقة الإسلام ونشر تعاليمه وإيضاح العقيدة الصحيحة التي درج عليها سلف الأمة وبيان حقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام من نوح إلى محمد عليهما وعلى سائر النبيين الصلاة والسلام كما أبان حقيقة الشرك وحذر منه وأبان ما كان عليه أهل الجاهلية من دعوة الأصنام والأشجار والأحجار والأنبياء والصالحين وأصحاب القبور وجاهد في بيان ذلك والدعوة إليه ونصر من دعا إليه والرد على خصوم الإسلام بقلمه ولسانه وسنانه وعلم أيضا أنه ليس له مذهب خاص كما يزعم خصومه والجهال بدعوته بل هو يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم وإلى مذهب سلف الأمة ويحذر من أنواع الشرك والبدع والخرافات التي كثرت في عصره وانتشرت بين الناس في نجد وغيرها فأعانه الله على ما قام به من الدعوة وأيده الله بآل سعود رحمة الله عليهم وأصلح بقيتهم ووفقهم لكل خير وأعانه الله أيضا بالعلماء الناصحين الذين عرفوا صحة ما دعا إليه فوازروه وساعدوه في نجد وغيرها حتى ظهر الحق وانتصر دين الله وعلت راية الإسلام واختفت أنواع الشرك والبدع في نجد وملحقاتها ثم في الحجاز وانتفع بهذه الدعوة الجم الغفير من العلماء في مصر والشام والعراق وأفريقيا وإندونيسيا والهند وغيرها رحمه الله رحمة واسعة ورفع درجته في المهديين وبارك في ذريته وزادهم من العلم والإيمان ونصر بهم الحق وضاعف المثوبة لأنصاره من آل سعود وغيرهم وبارك في ذرياتهم ونصر بهم الحق كما نصر بأسلافهم ووفق جميع المسلمين للتفقه في الدين والثبات عليه والبصيرة فيه وأعانهم على ترك كل ما يخالف شرعه ووفق قادتهم وحكامهم لما فيه رضاه ولتحكيم شريعته وإلزام الشعوب بها وترك ما خالفها لأن ذلك هو طريق القوة والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واستقام على سنته ودعا إلى ما جاء به إنه جواد كريم.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد