وقد بذل الأئمة المتأخرون جهداً كبيراً في هذه المصطلحات كيما ييسرون فهمها على الناس، فلا ينكر جهد الحافظ ابن الصلاح أو الخطيب البغدادي، أو الحافظ الذهبي أو العراقي أو ابن حجر العسقلاني، أو غيرهم من أئمة المصطلح إلا جاحد أعمى البصر والبصيرة.
ومثلما اتفقوا على كثير من هذه المصطلحات اختلفوا في بعض، وهذا أمر طبيعي، إذ وقع الخلاف في بعض تلك المصطلحات بناءً على قرائن توصل بها الإمام الفلاني إلى نتيجة خالفت ما توصل إليه.
ومن هذه المصطلحات في الجرح، قول الإمام البخاري رحمه الله تعالى «فيه نظر»، إذا وقع الخلاف في مراده منها، فحاولنا في هذه العجالة أن نناقش الأقوال، وأن نستقرئ الرجال الذين قال فيهم ذلك في كتابه العظيم «التأريخ الكبير»، مقارنين قوله بأقوال أئمة الجرح والتعديل من المتقدمين والمتأخرين، ولم نعرف بالإمام البخاري كعادة الباحثين أو بكتابة التأريخ، وذلك:
أولاً: لأن المقصد من البحث بيان مراد البخاري من قوله «فيه نظر»، ونحن على عجالة من أمرنا، وبحثنا هذا لأهل التخصص الدقيق، الذين هم أعرف مني بالكتاب والكاتب.
ثانياً: ترجمة الإمام البخاري وكتابه مشهورة ومتداولة بين طلبة الحديث فلا داع للنقل منها، ولا أرى جديداً في التكرار.
وقد اقتصرت في البحث على قوله «فيه نظر، أو في بعض النظر» أما ما تعلق بحديث الرجل أو بإسناد الحديث كأن يقول «حديثه فيه نظر» أو «إسناده فيه نظر»، فإني لم أتعرض لها لأنها تحتاج إلى بحث مستقل بها.
الفصل الأول
مراد الإمام البخاري من قوله: «فيه نظر»
اختلف أهل الصنعة في مراد الإمام البخاري في قوله على الراوي: «فيه نظر»، بين المتقدمين والمتأخرين على أقوال سنذكرها ثم نناقشها في المباحث الآتية:
يعد الإمام الذهبي- على حد علمي- أول من جعل هذه العبارة في هذه المرتبة، إذ يقول في الموقظة: «وكذا عادته- يعني البخاري- إذا قال «فيه نظر» بمعنى أنه متهم، أو ليس بثقة، فهو عنده أسوأ حالاً من الضعيف (?). وقال الذهبي في الميزان: «قال البخاري فيه نظر ولا يقول هذا إلا فيمن يتهمه غالباً» (?).