تلفتوا أيها السادة حولكم، واسألوا من تلقون من الكهول عن ذلك الزمان ... تجدوا في عيونهم عَبْرة، وفي قلوبهم حسرة، وعلى ألسنتهم جواباً واحداً: رحم الله تلك الأيام، لقد كانت أيام انشراح ...
كانوا لا يعرفون دسائس السياسة، ولا التزاحم على الرياسة، ولا شبه العلم، ولا رذائل الحضارة؛ لا يختلفون على مذهب اجتماعي، ولا يقتتلون لمصلحة حزب سياسي، ولا يقرعون أبواب الوظائف، إن تعلموا العلم تعلّموه لله لا للشهادات، وإن طلبوا المال طلبوه من التجارة لا من المضاربات والاحتكار والرشوات، وإن أرادوا تسلية ولهواً قصدوا الربوة أو الميزان أو الشاذِروان، ينصبون سَماوَرات الشاي وسماط الأكل وبساط الصلاة، لا يعرفون سينما ولا ملهى ولا ماخوراً ولا «نادي دمشق»! المساجد ممتلئة بهم، ومدارس العلم حافلة بأبنائهم، والعلماء هم الأمراء؛ طلبوا العلم للآخرة لا للدنيا فأعطاهم الله الدنيا والآخرة، والبيوت جِنان الأرض، والنساء حور تلك الجنان لا يعرفن التبرج ولا التكشف، ولا يراهنّ أحد في الطريق إلا خارجات لضرورة لا بدّ منها ومعهنّ الزوج أو الأب، يسبقهن وهنّ يتبعنه، لا يعرفن بيوت الفجور ولا أماكن العصيان ولا «دوحة الغضب»، ولا يخطر على بالهنّ أن الدنيا ستبلغ من الفساد أن سيكون فيها «فرق مضلاّت» ... !
كذلك كانوا فكانت أيامهم كلها أعياداً، فأين أعيادنا نحن؟
أرَبِحنا من هذه المدنية وهذا العلم ... أم خسرنا؟ سلوا هذه الحرب عما صنعته علومهم بسعادة البشر، وسلوا التاريخ عما صنعت بها علومنا وشريعتنا.