دمشق وقرية منين ووادي بردى في آن، ونرى فيه قاسيون كأنه أكمة تحتنا. ثم ملأ الظلامُ الكونَ فلم نعد نبصر مواضع أقدامنا، ثم توعّر الطريق فأصبح شِعباً ضيقاً على يمينه جبل عال كأنه جدار، وعلى شماله واد لا يبلغ النظر قراره، كأنما هو وادي النسيان الذي يبتلع كل شيء.
نزل الشاعر عن الدابة وراحت تسير خالية، وتضاءل كلٌّ في عين نفسه، حتى لقد رأيتنا أضعف من الديك في يد الأسد.
إنك تقرأ هذا الوصف -وأنت في بيتك- آمناً مطمئناً، فلا تكاد تقدر على تصوره، ولو ألقى بك الدهر في مثله مرة واحدة لعلمت ما هو أثره في النفس؛ لم يبقَ فينا من يقدر على النطق، وكلما رأينا صخرة أو نبتة من نبت الجبال يتراءى لنا في هذا الظلام حسبناه واحداً من هذه الضواري التي نسمع أصواتها ... دِبَبَة حلبون، وما أدراك ما دبَبة حلبون؟ وربما تلفّتْنا إلى الوراء نبصر: هل يتبعنا من شيطان أو وحش؟ فتغوص أقدامنا في الثلج المنتشر من هذه الجبال كلها. هنالك يؤمن بالله الملحدون، ويعلمون أنه لا شيء إلا الله يُتوجَّه إليه أو يُرجى منه السلامة.
قطعنا هذه الجبال الوعرة في ثلاث ساعات، لا أذكر في حياتي ما هو أشد عليّ منها. ولقد عرضنا فيها على الموت ورأينا عزرائيل يهم بنا مراراً، ولم نبصر أضواء حلبون حتى تقطعت أباطين قلوبنا من الخوف، وأخماص أقدامنا من السير.
هنالك رأينا منظراً أنسانا الشقاء والآلام، ذلك هو منظر الاستقبال. إنه كان -في الحق- استقبالاً عظيماً لم يَحظَ به من