من حديث النفس (صفحة 275)

إن الشهرة سراب زائف. إنها مثل «المستقبل» الذي يركض وراءه الناس كلهم فلا يصلون إليه أبداً، لأنهم إن وصلوا إليه صار «حاضراً» وعادوا يفتشون عن مستقبل آخر يعدُون إليه؛ كحزمة الحشيش المربوطة برأس الفرس، يسعى ليدركها وهي تسعى معه أبداً!

إنني أقول هذا من أعماق قلبي مؤمناً به، ولقد مرّ عليّ زمانٌ كان أحلى أمانيّ فيه أن أسير فيشير إليّ الناس بالأيدي يقولون: "هذا علي الطنطاوي"، وأن أعلو خطيباً كلَّ منبر، وأن أجد اسمي في كل صحيفة، وكان قلبي يتفتح للجمال ويستشرف للحب، فلما جربت هذا كله وذقت لذته صار كل ما أرجوه أن أتوارى عن الناس وأن أمشي بينهم فلا يعرفني منهم أحد.

لقد مرّ بي أكثر العمر، ورأيت الحياة ونلت لذاتها وجرعت آلامها. لم تبقَ متعة إلاّ استمتعت بها، فلا اللذائذ دامت ولا الآلام، ولا الشهرة أفادت ولا الجاه. ولقد شهدت حربين عالميتين، ورأيت تعاقب الدول على الشام من العثمانيين إلى الفرنسيين إلى مَن جاء بعد، ومَن قام ومَن قعد، ومَن أتى ومَن ذهب، ولو أردت الوزارة وسلكت طريقها لبلغتها من زمان كما بلغها من مشى على إثري في الدراسة وفي الحياة، ولو شئت لكنت من المشايخ الذين تُقبَّل أيديهم ثم تُملأ بالمال، فيملكون الضياع والسيارات ويصيرون -بحِرفة الدين- من كبار أبناء الدنيا! ولكني ما وجدت شيئاً يدوم. تذهب الوزارة فلا تترك إلاّ حسرة في نفوس أصحابها، ويصحو الناس فيعلمون أن الذي يأكل الدنيا بالدين لا يمكن أن يكون من الصالحين المصلحين ... فزهدت في المناصب والمراتب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015