الماضي الذي افتقدته. أفتّش عن بقية منه فلا أجدها، وأستنطقُ الديار فلا أسمع جوابها ... ثم رأيت وراء العمارتين خربة صغيرة مهجورة فيها بحرة عتيقة لا يزال ينساب منها الماء، وقد اخضرّت حجارتها ونبتت الطحالب عليها، فأحسست بقلبي يدق في صدري لمرآها، وتسارعت أنفاسي كأنني رأيت في زحمة الناس وجه حبيب طال منه الهجر وعز اللقاء ... إنها بركة القاعة الكبرى في بيت عمي؛ البركة التي كانت تلمع حجارتها كالمرايا ويبرق ماؤها كالألماس (?)، إنها تبدو اليوم كسائلة عجوز بأسمالها الباليات، ولكني أراها كما كنت أعرفها في أيام عزها، أراها الصبية الحسناء المدللة اللعوب. ووقفت أصغي إلى خريرها الخافت فأغفي عليه كما يغفي الطفل على الأغنية الناعمة تهمس بها أمه في أذنيه، ورحت أحلم:
رأيت البركة قد انجلت وصُقلت والماء قد عاد متدفقاً قوياً، وقامت من حولها الجدران المزخرفة وظللها السقف المنقوش، وعاد الإيوان والصحن، ورجعت الدار، وعاش الماضي. وسمعت طرق القباقيب وصياح النسوة وزئيط الأولاد.
واستغرقت في الماضي حتى ذهبت أنادي وأهتف بأسماء أهل الدار وقد نسيت أني أنادي من وراء أربعين سنة، أهتف بأسماء مِن أصحابها مَن واراه التراب، ومنهم من رمت به الأيام أبعد المرامي.
ولم يجب أحد.