والطلاب، ولم يبق إلاّ إخوة يعيش الواحد منهم للجميع ويعمل الجميع للواحد ... جاء الأمر بنقلي إلى البصرة!
* * *
وها أنذا الآن في البصرة في هذه الغرفة الصغيرة، أذكر مجالسنا على شاطئ دجلة فيخفق قلبي خفقاناً شديداً، وأتمثل أمامي صورة أخي الشاعر وهو ينشدنا أعذب أشعاره التي تشبه في رقتها نسيم الماء الرخيّ اللين، وفي انسيابها دجلةَ التي خلع عليها الغروب ثوباً منسوجاً من خيوط النور فيه مئة لون ... وأذكر «ليلة المطر»؛ ليلة جلسنا في هذه الحديقة التي تنبسط وراء المطار المدني في بغداد وأمامنا الفضاء الذي يمتد إلى ... دمشق، لا يحجبه شيء، وكان مصباح المطار الأحمر القوي يريق ضوءه على الحديقة ومَن فيها فيجعلها كأنها بقعة من عالم مسحور، لا يشبهه شيء، ولكنه جميل أخّاذ يملأ النفس نشوة وسكراً، وكانت الطبيعة تبدو أمامنا كأنها لوحة خَطّتها ريشة أبرع المصورين، فهذه الحمرة العجيبة، وزرقة السماء الصافية، وسواد الليل عند الأفق، والنساء بثيابهن الملونة المبرقشة، والنادلون بقُمُصهم البيض، يمشون على الحشائش لا يسمع لهم صوت، يتكلمون همساً ...
وكان النسيم رخيّاً ناعشاً، تميل منه الأزهار فتفوح من أثوابها رائحة العطر فتطفو على هذا النسيم، والأضواء البعيدة كأنها تائهة في الظلام فهي ترتجف من الخوف، وقد جمعت الطبيعة في تلك الليلة سحرها كله: صفاء السماء، وسكون الليل، والربيع الذي