في أحلامي حية فأشعر كأني عدت حياً وأهم بعناقها، وأفتح عيني فأجد على وجهي حَرّ لطمة الدهر الساخر، ولكني أحمل اللطمة وأغضي على القذى، ولا أخبر إخوتي بشيء لئلا أذكّرهم ما هم ناسون أو أجدّد لهم بالمصيبة عهداً، فأهمل ذكرى أمي ويهملونه ... ولعلّ كل واحد منهم يحسُّ مثلما أحس ويكتم مثلما أكتم!
ذكرت ذلك ساعة الوداع لأني كنت متألماً، وليس لآلامي كلها إلاّ معنى واحد هو أني أذكر وفاة أمي، ذلك هو الألم عندي لا ألم سواه.
فلما صحوت نظرت في وجوه المودّعين فلمحت وجه أمي مرة ثانية، ولكني لمحته حياً ماثلاً في وجوه إخوتي الأحباء. فودّعته بدمعة من العين وابتسامة على الفم وإشارة بالكف، ثم سارت بنا السيارة تطوي الأرض وتستقبل الصحراء ...
ذلك هو الموقف الأول!
* * *
أما الموقف الثاني فقد كان على شطّ دجلة في الهزيع الأول من الليل، وكانت محطة بغداد الغربية زاخرة بعشرات من خير شباب بغداد وزهرة فتيانها، تركوا دروسهم وامتحانهم القريب وخرجوا من دورهم في هذا الليل ليودّعوا صديقاً أحبهم وأحبوه وأخلصوا له الحب وأخلص لهم ... ذلك الصديق هو أنا، وأولئك هم تلاميذي، بل إخوتي، جاؤوا يودّعونني لا قياماً بواجب رسمي