وراحت المحطة تبتعد عنا وعيني عالقة بيد تلك المرأة التي تلوح لي بمنديل أبيض، حتى غاب عني كل شيء.
هناك تلفتُّ فرأيتني وحيداً، ورأيت القطار يجدّ لينأى بي عن أهلي وبلدي، فهممت بإلقاء نفسي من نافذة القطار ... لولا أن تعلقت بي أختي التي كانت على صغرها أكبر مني، وعلى أنوثتها أقوى وأجلد!
أردت أن ألقي بنفسي لأني لم أكن أتخيل أن في استطاعتي الحياة يوماً واحداً بعيداً عن أمي، التي كان تعلقها بنا وتعلقنا بها لا يشبه ما نرى من الأمهات والأبناء، وكان ... آه، ماذا تفيد «كان»، وقد كان ما كان؟
تلك هي أمي التي مرَّ على «غيابها» عني سنوات طوال، ولكني أحسُّ كأن الحادثة كانت أمس، فتحز في نفسي ولا أطيق أن أكتب عنها حرفاً.
تلك هي أمي التي كانت لي أماً وأباً بعد أبي رحمهما الله، وكانت حبيبة، وكانت أستاذة، وكانت دنياي، وكانت آخرتي ... وكانت أمي.
تلك هي أمي التي فوجئتْ كما تُفاجَأ الشجرة الغضة الفينانة في ربيعها الزاهر، حين تعصف بها العاصفة فتدعها جذعاً مقطوعاً جافاً.
تلك هي أمي التي ما نسيتها -علِمَ الله- أبداً، ولم أذكرها أبداً! إنها تملأ نفسي ولكني لا أجري ذكرها على لساني. أراها