ثم تجمعها، فتبدو كأنما هي مراوح ضخمة تحركها يد لا تُرى فتُروِّح بها على وجه الدنيا، وكانت تظهر أوائلها وتغيب أواخرها في هذا السحاب الترابي الذي يغطي على كل شيء ويصل الأرض بالسماء، فترى الطريق كأنه صاعد إليها، أو تراها كأنها هابطة إليه! وكانت الرياح زَعْزَعاً (?) شديدة، تميل بالأشجار وتعصف بالغصون، ولم يكن ثابتاً وسط الرياح إلا صاحبنا بعصاه وضَعفه وأحماله ... ولَحَظَ ذلك من نفسه، وأعجبه أن يلحظه ويفكر فيه، وعراه شيء من الاعتداد بالنفس، وازداد حتى ملأه الشعور بقوّته، فجعل ينظر في عِطْفيه زهواً وتيهاً، وجعل يتأمل دخيلته ويفكر في نفسه: مَن هو؟ وما هذه الحياة التي يحياها؟ ...
واشتدت الرياح وعزفت، ثم صفرت صفيراً، فلم يبالِ بها ولم يحفلها، لأنّ زوبعة أخرى أشد هولاً قد هبّت في نفسه ... تنطح هذا الجبل وتريد أن تنسفه. فوقف يفكر: لماذا يضيّق حياته بيده؟ لماذا يعطل فكره وملكاته؟ أكل ذلك لأنه وجد إنساناً جميلاً ظن أنه يحبه؟
لتكن جميلة أو قبيحة، ما شأنه هو بها؟ ومَن قال إنه لا يعيش إلاّ بها؟ ماذا كان يصنع قبل أن يعرفها؟ ألم يكن يعيش؟ ألم تكن حياته أجمل وأحفل بالعظائم وأملأَ بالفضائل؟ هل كان هذا الحب إلاّ مرضاً عُضالاً هدَّ جسمَه ومحا مواهبه وفلَّ عزيمته، وأقام بينه وبين الحياة سداً من لحم ودم؟