من حديث النفس (صفحة 141)

وتكسر الأغصان، وتمتد إلى كل شيء في الطبيعة فتعيث فيه وتعبث به، وتدفعه من ههنا وههنا ... معتكرة تسفي التراب وتحمل هذا الغبار الناعم الدقيق (?) الذي يملأ الجو ويخالط كل ذرة من ذرات الهواء، وينتشر في السماء كمثل السحاب، يمنع الشمس ويحجب المرئيات، ولا يمنع منه شيء، فهو يدخل الغرف مهما أحكمت إغلاق الباب وضبطت النوافذ، وينفذ من خلال الثياب مهما كانت حصيفة محكمة، ويخش (?) في العيون والمناخر والآذان وفي أصول الشعر، ويمر إلى أجواف الصناديق وبطون الخزائن وقلوب الساعات ... بل إنه -لدقته وخفته وسرعته- ليكاد يدخل في نفسه!

وكان على صاحبنا أن يغدو إلى عمله في بغداد، وكان ينزل ضاحية من ضواحيها، فتردد ثم لم يجد من الأمر بداً، فتحزّم وتدثّر وتعطّف بمعطفه الثخين، والْتَحَفَ فوقه بالمِمْطَر (المشمّع) يتقي به المطر، ولف شَملة على عنقه، ولبس قفازيه، وأخذ عصاه فتوكأ عليها، وسار الهوينى لا يطيق حراكاً؛ لكثرة ما يحمل من ثياب، ولطول الطريق وشدة الرياح، وما به من الضعف والإعياء.

* * *

وكان وحده في طريق (الصُّلَيْخ)، لم يجد سيارة يركبها ولا قوماً يصحبهم، فنزل ماشياً. وكان الطريق طويلاً على طرفيه النخيل تعبث به الرياح، فتميل بجذوعه وتحرك أغصانه فتفرقها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015