وحدي أفكر؛ لا أفكر في دمشق التي حننتَ إليها وشاقتك ذكراها، دمشق التي باكرها الربيع فضحك في غوطتها الزهر وغمر جوَّها العطر، وماست في جناتها الحور الفاتنات من الحور والصفصاف ومن بنات أمنا حواء، لا أفكر فيها لأن قلبي لا يتفتح الآن لإدراك الجمال، وقريحتي لا تنشط لوصف الربيع، ومكان الشعر من نفسي مقفر خال. وما لي لا تخمل قريحتي ويذوي غصن الشعر في نفسي، وقد عدت إلى دمشق على طول شوقي إليها وازدياد حنيني، وتركت أهلاً في العراق كراماً، وبلداً طيباً، وأمة حية، تحمل اللواء وتهز العلَم، وتتقدم لتجمع الشمل الشتيت، شمل العرب المتفرق، وتوحّد الشعب وتُرجع المجد والجلال، وتؤلف بين أهل الضاد من حاضر وباد ... تركت ذلك كله وعدت إلى بلدي الأول (ويا ليت بغداد كانت هي بلدي الأول!) فلم أجد في دمشق إلاّ النكران والأذى، ولم أجد إلاّ ما يسوء ويؤلم.
ولكن هل يشكو امرؤٌ بلدَه؟ هل يهدم بيده دارَه؟
إن تكلمت قال الحساد: بغى وظلم، وإن سكتّ قال الشامتون: رضي أو عجز! والقلب بالسكوت يتفطر، والصدر من الصمت يتمزق، والكلام ... هل يجوز لي الكلام؟
يا ليتني بقيت بعيداً أقنع من بلدي بهذه الصورة الحلوة التي تتراءى من خلال أحلام المشوق الولهان ويوحي بها الحنين الطاغي! يا ليتني ... وهل تنفع شيئاً «ليتني»؟
لقد عَمِيَ أولو الأمر والنهي عن أدبي وعلمي وعما نشرت في الكتب والمجلات والصحف، وهو شيء يملأ ثلاثة آلاف