وجاء إلى بغداد، فلم يكد يلقي فيها رَحلَه حتى عراه اكتئاب وملل لا يعرف له سبباً، وأحس الحنين يحز في قلبه والشوق يدمي فؤاده، وانتابته إحدى نوباته العاطفية فلم تدع في رأسه إلاّ فكرة واحدة، هي الرغبة في العودة، لا يبالي معها ماذا قيل عنه وماذا ضاع منه، ولكنه لم يكد يستجيب لها حتى أدركه مدَدٌ من عقله، فصحا من نوبته وتخلص من عاطفته، فآثر البقاء وأقبل على العمل، فلم يمضِ عليه يوم حتى سمع من ينشد:
فيمَ الإقامةُ بالزوراء؟ لا سَكَني ... بها، ولا ناقتي فيها ولا جملي
فنشطت عاطفته المكبوتة من عقالها، تصرخ في وجه العقل أن: فيمَ الإقامة بالزوراء؟ فغُلب العقل واستخذى وذهب يستعد لمعركة أخرى.
ولقد وجد في بغداد من الإكبار فوق ما كان يرجو، ووجد اسمه قد سبقه إليها، وحفَّ به قرّاؤه والمعجبون به وأسرعوا للسلام عليه والاجتماع به، فلم يكن أبغضَ إليه وأشدَّ عليه من هذه الاجتماعات، فكان يُعرض عنهم ويرتكب في هذا الباب أشد الحماقات، حتى إنه ليدع الجماعة من علية القوم في ردهة الفندق ويفر منهم، وما جاؤوا إلاّ من أجله، فيقوم من غير استئذان ولا اعتذار ويذهب إلى غرفته فيعتصم بها. وإنه ليعلم ما في عمله من الجفاء، ولكنه يضطر إليه اضطراراً، فهو يشعر أن جو هذه المجالس ثقيل عليه حتى ليوشك أن يخنقه ويغدو فيه كمن سُدّ أنفه وفمه، ويلام فلا يدفع عن نفسه لوماً ولا يحاول إنكاراً، ويعترف بالضعف ويقر بالعجز.