خرج القراء على الحجاج الثقفي وكان أميراً لـ عبد الملك بن مروان على العراق، وانتصر جند ابن الأشعث على الحجاج في مواطن كثيرة وكاد أن يزول ملكه، وكان الحجاج مقداماً شجاعاً فثبت حتى فرّق جمعهم، ثم تعقّب الذين خرجوا عليه، وكان من هؤلاء سعيد بن جبير، ولكنه اختفى فترة ثم وقع في يد الحجاج، وكان منهم أيضاً الإمام الشعبي، ولكن الشعبي استعمل التقية وعرّض بالكلام وتحايل حتى نجا من القتل، أما سعيد بن جبير فاستبسل للموت حتى قُتل.
قال الذهبي: خرج مع ابن الأشعث على الحجاج، ثم إنه اختفى وتنقل في النواحي اثنتي عشرة سنة، ثم أوقعوا به وأحضروه إلى الحجاج فقال: يا شقي بن كسير -أي: بدل سعيد بن جبير قال: يا شقي بن كسير- أما قدمت الكوفة وليس يؤم بها إلا عربي فجعلتك إماماً؟ -لأنه كان مولى وليس عربياً أصلياً- قال: بلى، قال: أما وليتك القضاء فضج أهل الكوفة وقالوا: لا يصلح للقضاء إلا عربي، فاستقضيت أبا بردة بن أبي موسى الأشعري وأمرته ألا يقطع أمراً دونك؟ قال: بلى، قال: أما جعلتك في سماري؟ -يعني: من يسمر معه ويحادثه بالليل- وكلهم رءوس العرب؟ قال: بلى، قال: أما أعطيتك مائة ألف تفرقها على أهل الحاجة؟ قال: بلى، قال: ما أخرجك عليّ؟ قال: بيعة كانت في عنقي لـ ابن الأشعث، فغضب الحجاج وقال: أما كانت بيعة أمير المؤمنين في عنقك من قبل؟ يا حرسي اضرب عنقه، فضرب عنقه رحمه الله.
وعن أبي حصين قال: رأيت سعيداً بمكة فقلت: إن هذا خالداً -يعني: خالد بن عبد الله القسري وكان أميراً على مكة لـ عبد الملك بن مروان - ولست آمنه عليك، قال: والله لقد فررت حتى استحييت من الله.
قال الذهبي: طال اختفاؤه، فإن قيام القراء على الحجاج كان في سنة 82 هـ وما ظفروا بـ سعيد إلا سنة 95 هـ وهي السنة التي أهلك الله فيها الحجاج.
وعن أبي اليقظان قال: كان سعيد بن جبير يقول يوم دير الجماجم -وهي المعركة التي بين القراء وبين الحجاج - وهم يقاتلون: قاتلوهم على جورهم في الحكم، وخروجهم من الدين، وتجبّرهم على عباد الله، وإماتتهم الصلاة -فإنهم كانوا يصلون الجمعة قرب المغرب، ولكنهم كانوا يحكمون الشرع، إلا أنه كان عندهم شيء من الجور، وكانوا يداً قوية على أعداء الإسلام، ولكن من ينازعهم السلطان كانوا يضربونه بيد قوية- واستذلالهم للمسلمين.
فلما انهزم أهل دير الجماجم لحق سعيد بن جبير بمكة فأخذه خالد بن عبد الله فحمله إلى الحجاج مع إسماعيل بن أوسط البجلي.
قال محمد بن سعد: كان الذي قبض على سعيد بن جبير والي مكة خالد بن عبد الله القسري، فبعث به إلى الحجاج، فأخبرنا يزيد عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: سمع خالد بن عبد الله صوت القيود، فقال: ما هذا؟ قيل: سعيد بن جبير وطلق بن حبيب وأصحابهما، يطوفون بالبيت، قال: اقطعوا عليهم الطواف.
وعن أبي صالح قال: دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج فبكى رجل، فقال سعيد: ما يبكيك؟ قال: لما أصابك، قال: فلا تبك، كان في علم الله أن يكون هذا، وتلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22].
وهذا مما يتسلى به عند المصائب، فإن الإنسان المؤمن يعلم أن هذا في قدر الله ولا بد أن يكون، كما قال بعضهم: هي المصيبة تصيب العبد فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
وعن سالم بن أبي حفصة قال: لما أتى سعيد بن جبير الحجاج قال: أنت شقي بن كسير، قال: أنا سعيد بن جبير قال: لأقتلنك، قال: أنا إذاً كما سمتني أمي -أي: سعيد - ثم قال: دعوني أصلي ركعتين، قال: وجهوه إلى قبلة النصارى، قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة:115]-ولأنه مكره على الصلاة لغير القبلة فليس عليه شيء- قال: إني أستعيذ منك بما عاذت به مريم، قال: ما عاذت به مريم؟ قال: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18].
قال سليمان التيمي: