ملتقي اهل اللغه (صفحة 8180)

14 - كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، ولكنّه صلى الله عليه وسلم حجب عنه الشّعر لما كان الله سبحانه وتعالى قد ادّخره له من فصاحة القرآن وإعجازه دلالةً على صدقه، كما سلب عنه الكتابة وأبقاه على حكم الأمّيّة تحقيقاً لهذه الحالة وتأكيداً، ولئلاّ تدخل الشّبهة على من أرسل إليه فيظنّ أنّه قوي على القرآن بما في طبعه من القوّة على الشّعر.

قال الله تعالى: «وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ».

15 - وقد اختلف في جواز تمثّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بشيء من الشّعر وإنشاده حاكياً عن غيره، والصّحيح جوازه لما روى المقدام بن شريح عن أبيه قال: قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثّل بشيء من الشّعر؟ قالت: «كان يتمثّل بشعر ابن أبي رواحة ويتمثّل ويقول ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد».

وروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل».

وإصابة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وزن الشّعر لا يوجب أنّه يعلم الشّعر، وكذلك ما يأتي من نثر كلامه ممّا يدخل في وزن كقوله صلى الله عليه وسلم: «هل أنت إلاّ أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت».

وقول صلى الله عليه وسلم: «أنا النّبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطّلب».

فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن الكريم كقوله تعالى: «لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ».

وقوله سبحانه: «نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ».

وقوله عزّ وجلّ: «وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ» إلى غير ذلك من الآيات، وليس هذا شعراً ولا في معناه، ولا يلزم من ذلك أن يكون النّبيّ صلى الله عليه وسلم عالماً بالشّعر ولا شاعراً، لأنّ إصابة القافيتين من الرّجز وغيره من غير قصد كما قال القرطبيّ، لا توجب أن يكون القائل عالماً بالشّعر ولا يسمّى شاعراً، كما أنّ من خاط خيطاً لا يكون خيّاطاً، قال أبو إسحاق الزّجّاج: معنى «وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ» وما علّمناه أن يشعر، أي ما جعلناه شاعراً، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئاً من الشّعر.

«رابعاً: إنشاد الشّعر في المسجد»

16 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ العبرة بمضمون الشّعر، فإن كان حسناً جاز إنشاده في المسجد وإلاّ فلا.

قال ابن عابدين: أخرج الطّحاويّ في شرح معاني الآثار: «أنّه صلى الله عليه وسلم نهى أن تنشد الأشعار في المسجد، وأن يباع فيه السّلع، وأن يتحلّق فيه قبل الصّلاة» ثمّ وفّق بينه وبين ما ورد: «أنّه صلى الله عليه وسلم وضع لحسّان منبراً ينشد عليه الشّعر» بحمل الأوّل على ما كانت قريش تهجوه به، أو على ما يغلب على المسجد حتّى يكون أكثر من فيه متشاغلاً به، وكذلك النّهي عن البيع فيه هو الّذي يغلب عليه حتّى يكون كالسّوق لأنّه صلى الله عليه وسلم لم ينه عليّاً عن خصف النّعل فيه. مع أنّه لو اجتمع النّاس لخصف النّعال فيه كره، فكذلك البيع وإنشاد الشّعر والتّحلّق قبل الصّلاة فما غلب عليه كره وما لا فلا. وهذا نظير ما قاله القرطبيّ.

ونقل الزّركشيّ عن النّوويّ أنّه ينبغي ألاّ ينشد في المسجد شعر ليس فيه مدح للإسلام ولا حثّ على مكارم الأخلاق ونحوه، فإن كان لغير ذلك حرم.

ونقل عن الصّيمريّ قوله: كره قوم إنشاد الشّعر في المساجد وليس ذلك عندنا بمكروه، وقد كان حسّان بن ثابت ينشد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشّعر في المسجد، وأنشده كعب بن زهير قصيدتين في المسجد، لكن لا يكثر منه في المسجد، قال الزّركشيّ: والظّاهر أنّ هذا محمول على الشّعر المباح أو المرغّب في الآخرة أو المتعلّق بمدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر بعض مناقبه ومآثره لا مطلق الشّعر، وقال الماورديّ والرّويانيّ: لعلّ الحديث في المنع من إنشاد الشّعر في المسجد محمول على ما فيه هجو أو مدح بغير حقّ، فإنّه عليه الصلاة والسلام مدح وأنشد مدحه في المسجد فلم يمنع منه، وقال ابن بطّال: لعلّه كان فيما يتشاغل النّاس به حتّى يكون كلّ من في المسجد يغلب عليه.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015