وَقَوْله: (فَأَسْكَتَ الْقَوْم) هُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَة الْمَفْتُوحَة. قَالَ جُمْهُور أَهْل اللُّغَة: سَكَتَ وَأَسْكَتَ لُغَتَانِ بِمَعْنَى صَمَتَ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ: سَكَتَ صَمَتَ، وَأَسْكَتَ أَطْرَقَ. وَإِنَّمَا سَكَتَ الْقَوْم لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْفَظُونَ هَذَا النَّوْع مِنْ الْفِتْنَة، وَإِنَّمَا حَفِظُوا النَّوْع الْأَوَّل.
وَقَوْله: (لِلَّهِ أَبُوك) كَلِمَة مَدْح تَعْتَاد الْعَرَب الثَّنَاء بِهَا؛ فَإِنَّ الْإِضَافَة إِلَى الْعَظِيم تَشْرِيف، وَلِهَذَا يُقَال: بَيْت اللَّه. قَالَ صَاحِب التَّحْرِير: فَإِذَا وُجِدَ مِنْ الْوَلَد مَا يُحْمَد قِيلَ لَهُ: لِلَّهِ أَبُوك حَيْثُ أَتَى بِمِثْلِك.
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تُعْرَض الْفِتَن عَلَى الْقُلُوب كَالْحَصِيرِ عُودًا) هَذَانِ الْحَرْفَانِ مِمَّا اُخْتُلِفَ فِي ضَبْطه عَلَى ثَلَاثَة أَوْجُه أَظْهَرهَا وَأَشْهَرهَا عُودًا عُودًا بِضَمِّ الْعَيْن وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَة، وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْعَيْن وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَة أَيْضًا، وَالثَّالِث بِفَتْحِ الْعَيْن وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَلَمْ يَذْكُر صَاحِب التَّحْرِير غَيْر الْأَوَّل. وَأَمَّا الْقَاضِي عِيَاض فَذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْجُه الثَّلَاثَة عَنْ أَئِمَّتهمْ، وَاخْتَارَ الْأَوَّل أَيْضًا. قَالَ: وَاخْتَارَ شَيْخنَا أَبُو الْحُسَيْن بْن سَرَّاج فَتْح الْعَيْن وَالدَّال الْمُهْمَلَة. قَالَ: وَمَعْنَى (تُعْرَض) أَنَّهَا تُلْصَق بِعَرْضِ الْقُلُوب أَيْ جَانِبهَا كَمَا يُلْصَق الْحَصِير بِجَنْبِ النَّائِم، وَيُؤَثِّر فِيهِ شِدَّة اِلْتِصَاقهَا بِهِ. قَالَ: وَمَعْنَى (عُودًا عُودًا) أَيْ تُعَاد وَتُكَرَّر شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. قَالَ اِبْن سَرَّاج: وَمَنْ رَوَاهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة فَمَعْنَاهُ سُؤَال الِاسْتِعَاذَة مِنْهَا كَمَا يُقَال: غُفْرًا غُفْرًا، وَغُفْرَانك أَيْ نَسْأَلك أَنْ تُعِيذنَا مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْ تَغْفِر لَنَا. وَقَالَ الْأُسْتَاذ أَبُو عَبْد اللَّه بْن سُلَيْمَان: مَعْنَاهُ تَظْهَر عَلَى الْقُلُوب أَيْ تَظْهَر لَهَا فِتْنَة بَعْد أُخْرَى.
وَقَوْله: (كَالْحَصِيرِ) أَيْ كَمَا يُنْسَج الْحَصِير عُودًا عُودًا وَشَظِيَّة بَعْد أُخْرَى. قَالَ الْقَاضِي: وَعَلَى هَذَا يَتَرَجَّح رِوَايَة ضَمّ الْعَيْن وَذَلِكَ أَنَّ نَاسِج الْحَصِير عِنْد الْعَرَب كُلَّمَا صَنَعَ عُودًا أَخَذَ آخَر وَنَسَجَهُ فَشَبَّهَ عَرَضَ الْفِتَن عَلَى الْقُلُوب وَاحِدَة بَعْد أُخْرَى بِعَرْضِ قُضْبَان الْحَصِير عَلَى صَانِعهَا وَاحِدًا بَعْد وَاحِد. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيث عِنْدِي وَهُوَ الَّذِي يَدُلّ عَلَيْهِ سِيَاق لَفْظه وَصِحَّة تَشْبِيهه. وَاَللَّه أَعْلَم.
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَأَيّ قَلْب أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَة سَوْدَاء، وَأَيّ قَلْب أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَة بَيْضَاء) مَعْنَى (أُشْرِبَهَا) دَخَلَتْ فِيهِ دُخُولًا تَامًّا وَأُلْزِمَهَا وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلّ الشَّرَاب. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل} أَيْ حُبّ الْعِجْل، وَمِنْهُ قَوْلهمْ: ثَوْب مُشْرَب بِحُمْرَةٍ: أَيْ خَالَطَتْهُ الْحُمْرَة مُخَالَطَة لَا اِنْفِكَاك لَهَا. وَمَعْنَى نُكِتَ نُكْتَة نُقِطَ نُقْطَة وَهِيَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة فِي آخِره. قَالَ اِبْن دُرَيْدٍ وَغَيْره: كُلّ نُقْطَة فِي شَيْء بِخِلَافِ لَوْنه فَهُوَ نَكْت، وَمَعْنَى (أَنْكَرَهَا) رَدَّهَا. وَاَللَّه أَعْلَم.
¥