فالعهد الأول الذي يقع في ما لا يقل عن خمس وثلاثين صفحة قد جاء لدى ابن الخطيب فيما لا يجاوز ثلاث عشرة، والثاني وهو في الأصل في حوالي اثنتي عشرة صفحة قد جعله ابن الخطيب في سبع عشرة. وهكذا نرى أن الأول؟ وهو أكبرهما - قد نقص كثيرا (فأصبح ثلث الحجم الأصلي) ، وزاد الثاني قليلا بمقدار نصف حجمه، والسبب في ذلك أن ابن الخطيب يحذف ما لا يتلاءم ونظرته السياسية في كلا العهدين، كما أنه اختار شكل المقامة بالنسبة للعهد الأول، ولذلك اضطر أن يحافظ على طول المناسب لها، وكان موضوع العهد الثاني ألصق بنفسه وتجربته؟ لأنه عهد وزير إلى ولده، فهو يعكس دور ابن الخطيب نفسه في الحياة السياسية، ولهذا زاده السجع كما زادته الرغبة في الموضوع طولا، وهكذا يكون ابن الخطيب قد عالج المحتوى اليوناني في شكلين أدبيين، اختار لأحدهما المقامة، واختار للثاني ما جرى عليه الكتاب الذين أعادوا صياغة الرسائل الارسطاطاليسية المنحولة؟ حسبما تبين في الفصل الثامن - بأسلوب جزل مسجع، وبخاصة ما قام به مؤلف كتاب " القلائد والفرائد ".

وقد تأنى ابن الخطيب لشكل المقامة بأن خلق حول النص اليوناني جوا ملائما لهذا الشكل، إذ تصور هارون الرشيد وقد أصابه الأرق، فبعث رسله ترتاد كل سبيل ليأتوه بأول طارق يصادفونه، وكان أن وقع في أيديهم " شيخ طويل القامة، ظاهر الاستقامة، سبلته مشمطة، وعلى أنفه من القبح (?) مطة، وعليه ثوب مرقوع، لطير الخرق عليه وقوع "؟ شيخ في مثل حال أبي الفتح الإسكندري، إلا أنه حكيم لا وعظ من الذين يتصيدون الرزق بالحيلة، " فارسي الأصل، أعجمي الجنس، عربي الفصل " قد جمع فضائل أمم ثلاث، فيسأله الرشيد عن رأيه " في هذا الأمر الذي بلينا بحمل أعبائه " أي رياسة الدولة وسياسة الأمة، فيقدم له رأيه في الموضوع، بما لا يخرج كثيرا عما رسمه الملك في عهده لابنه، حتى إذا استوفى الحظ من الحديث في السياسة، أصلح عوده وتغنى، ثم غير اللحن " إلى لون التنويم، فأخذ كل في النعاس والتهويم " وانسل من المجلس، كما يفعل أبو الفتح في بعض المواقف، وطلب فلم يعثر له على أثر، تماما كما يختفي أبو الفتح أيضا، إلا أن اختتام المجلس بالموسيقى والتفنن في اللحون، أليق بالحكيم منه بالمكدي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015