أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاةً وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه هي الحلقة الرابعة والعشرون في سلسلة حلقاتنا عن السيرة النبوية العطرة على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات من رب الأرض والسماوات، نسأل الله في بداية هذه الجلسة الطيبة أن يجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل بيننا ربنا بفضله ورحمته شقياً ولا محروماً.
اللهم لا تدع لنا في هذه الليلة العظيمة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا قصمته، ولا عيباً سترته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا صاحب صدر ضيق إلا شرحته، ولا مسافراً إلا رددته غانماً سالماً لأهله.
ارزقنا يا مولانا قبل الموت توبة وهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرةً ونعيماً.
اجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، اللهم اطرد عن بيوتنا شياطين الإنس والجن، أكرمنا ولا تهنا أعطنا ولا تحرمنا زدنا ولا تنقصنا كن لنا ولا تكن علينا آثرنا ولا تؤثر علينا انصرنا ولا تنصر علينا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك معافين، غير فاتنين ولا مفتونين، وغير خزايا ولا ندامى ولا مبدلين، آمين آمين يا رب العالمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: سأل سيدنا أبو ذر رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ماذا كانت صحف موسى؟) أي: هل كانت عبارة عن سور، أم آيات محددة، أم على شاكلة القرآن، أم ماذا كانت؟ فقال سيدنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كانت حكماً كلها، كان فيها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، وعجبت لمن أيقن بالحساب ثم هو يضحك، وعجبت لمن يؤمن بالقدر ثم هو ينصب، وعجبت لمن أيقن بالجنة والنار ثم هو يغفل، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم هو يركن إليها) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لعل هذه تكون بداية لحديثنا اليوم في تكملة الحديث عن السيرة النبوية العطرة، وعن صلاة الجماعة وصلاة الجمعة وسجود السهو، وصلاة المسافر فكلنا على سفر كلنا في الدنيا مسافرون، وسوف تحط الرحال يوماً ليحاسبنا رب العباد سبحانه على صغير الأمر وكبيره.
يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم عن صحف سيدنا موسى عليه السلام: (عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح) فما قيمة فرح العبد والموت ينتظره؟ ولذلك كان الصحابي الجليل سلمان الفارسي يتعجب من ثلاثة أنواع من الناس: مؤمل في الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس يغفل عنه، وضاحك بملء فيه وهو لا يدري أساخط عنه ربه أم راض! فالله لا ينسى، قال تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] فكل شيء مكتوب عند الله عز وجل، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (كل سجل مد البصر)، فيه كل المظالم والحسنات والسيئات.
فالإنسان إذا أراد أن يكتب ترجمة لحياة شخص العلمية فقط فإنه يحتاج لبيان ذلك عدة ساعات، وعندما يريد كتابة ذلك وتفريغه على الورق فإنه يحتاج إلى سجلات كثيرة، وسيضجر الإنسان من التسجيل لكن الملائكة لا يضجرون؛ لأنه عملهم، فهم ينفذون ما طلب منهم بلا كلل، فالملك لا يكل ولا يمل، وإنما هو يعمل لا يتوانى، فتكتب الملائكة اللفظات والخطوات والنظرات، وتكتب جميع أعمال الجوارح، وأعمال القلب، والمظالم إن كنت مظلوماً أو ظالماً تكتب لك الحسنات تكتب السيئات وتكتب كل حركة.
حتى قال ابن عباس: عندما يمسك الكافر بكتابه ويقول: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] قال: إن الصغيرة التبسم والكبيرة الضحك.
إذاً: التبسم هذا إما أن تأخذ فيه ثواباً أو تأخذ عليه عقاباً، إن تبسمت في وجه أخيك عندما تلقاه كتبت لك عند الله حسنة؛ لأن تبسمك في وجه أخيك صدقة.
وقد تودي ضحكة بسيطة صدرت من إنسان على سبيل السخرية والاستهزاء وازدراء الآخرين، وقد تكثر من الضحك والفرح في الدنيا ولكنك ستحزن يوم القيامة، وخصوصاً الذي يسخر ممن هو دونه في الوظيفة أو العمل، ويتلذذ بالسخرية من الناس وإدخال الرعب على قلوبهم، فمثل هذا أذنب وهو يضحك.
وقد يأتي الإنسان الموت وهو على خاتمة غير حسنة، كأن يأتي الموت رجلاً وهو يرقص في عرس، ومثل هذا يبعث يوم القيامة وهو على الحالة التي مات عليها.
فإن تجلس مع أناس يخوفونك فتجد أمناً يوم القيامة خير لك من أن تجلس مع أناس يؤمنونك فتجد خوفاًً يوم القيامة، قال تعالى في الحديث القدسي: (لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، من أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة، ومن خافاني في الدنيا أمنته في الآخرة).
اللهم أمنا يوم الفزع الأكبر يا أكرم الأكرمين.
فيخرج للعبد من تحت العرش تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر.
فلو نظرت بعينيك فإن آخر ما انتهى إليه بصرك هذا هو السجل الواحد، وهي تسعة وتسعون سجلاً، فمنذ أن بدأ العداد يعد ويسجل عليك فذلك كان منذ بلغت الحلم.
والكتاب الذي ستمسكه بيدك هو الذي يقول فيه ربنا: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عنقه} [الإسراء:13] والطائر عبارة عن شهادة فيها مجمل الدرجات؟ وفي هذه الشهادة يجد الإنسان هل أكثر من السيئات فيكون ناجحاً بتفوق، أم العكس, أم أن نجاحك كان بسيطاً وشارفت على الرسوب، ولذلك فإن سورة الواقعة قسمتهم إلى ثلاثة أقسام: مقربين، وأصحاب يمين، وأصحاب شمال.
والحسن البصري كان يقرأ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11] فيبكي ويقول: لقد ذهب السابقون والمقربون، اللهم اجعلنا من أهل اليمين.
والأصل أن المؤمن يشعر نفسه بالتقصير لكي يعمل، فإن الإنسان متى اغتر بعمله فإن العمل بدأ يحبط وهو لا يشعر.
وهناك شهود عشرة على أعمالك المسجلة في الكتاب الذي ستأخذه يوم القيامة وهم: الشمس والقمر، ورقيب وعتيد الملكان اللذان يسجلان الحسنات والسيئات.
وبقية الشهود هي الجوارح، فاللسان ينطق، والأذن تقول: أنا سمعت، والعين تقول: أنا نظرت، والرجل تقول: أنا ذهبت، واليد تقول: أنا بطشت، والقلب يقول: أنا ظننت ظن سوء، فيسأل الإنسان جوارحه: ما الذي أنطقكم، فيقولون: {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [فصلت:21].
وبعد ما يخرج للعبد من تحت العرش تسعة وتسعون سجلاً، يقول له الله: يا عبدي! اقرأ فيها فيقول: يا رب! أنت لا تظلم الناس شيئاً، فيقول: من أجل ألا يبقى لك حجة، فيطلع على الملفات من بدايتها إلى نهايتها، ومن فضل الله عليك أن جعلك تطلع على كتابك وسجلاتك.
وبعد أن ينتهي العبد من اطلاعه على سجلاته يقول له: إليك هذه الأسئلة الثلاثة: السؤال الأول: هل ظلمك حفظتي؟ فيقول العبد: لا، يا رب! السؤال الثاني وهو أغرب: ألك حسنة مخفية؟ فيقول: لا يا رب! لم يحصل.
السؤال الثالث وهو الأغرب: ألك عذر تعتذر إلينا به؟ أي: بين لنا السبب الذي أوقعك في الذنوب.
فاستغرب الصحابة من السؤال الثالث وقالوا: (أيقبل ربنا الأعذار يا رسول الله! قال: لا أحد أشد قبولاً للعذر من الله رب العالمين) لكن أين العذر فأنت الذي لم تكن تصلي أنت الذي لم تكن تزكي أنت الذي لم تكن تصوم أنت الذي لم تتق الله أنت الذي كنت ترتكب ما حرم الله هذا العذر الذي ستقوله لربنا سبحانه وتعالى فأول شيء في صحف سيدنا موسى: (عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح) فما دام الموت آتياً فبماذا يفرح الإنسان؟ ولذلك الإنسان الذي يدرك أنه ميت تجده شجاعاً زاهداً كريماً متوكلاً على الله، والإنسان الذي يعمل حساب الموت تجده بخيلاً جباناً خائفاً من الغد ضيق الصدر؛ وذلك لأن الدنيا تحيط به من كل اتجاه، لكن لو عاش في الآخرة بقلبه وقالبه لارتاح واطمأن كما قال الله لموسى: (يا موسى! خمس ختمت لك بهن التوراة: إن عملت بهن نفعك العلم كله، وإن لم تعمل بهن فما نفعك من العلم شيء، يا موسى! لا تخش ذا سلطان ما دام سلطاني باقياً، وسلطاني باق لا يزول أبداً).
إذاً: فالذي يخاف من الموت لا يخاف من السلطان ما دام سلطان الله باقياً، فإذا كنت متوكلاً على الله وظهرك تلجئه لمولاك الذي يقول للشيء كن فيكون وتوكلت على الحي الذي لا يموت فلا خوف.
(يا موسى! لا تخش ذا سلطان ما دام سلطاني باقياً، وسلطاني باق لا يزول أبداً) والجملة الأخيرة نفهمها من سياق النص، لأن سلطان الله باق من غير أن يتكلم.
الثانية: (لا تخش فوات الرزق ما دامت خزائني مملوءة، وخزائني مملوءة لا تنفد أبداً) فلا أخاف من الرزق؛ لأن خزائن الله ما دام أنها مملوءة فأنا لا أخاف، والله قادر على أن يجعل أهل الأرض على قدر واحد من الحال، ولكن الله جعل منا الغني ومنا الفقير ليختبرنا وليبتلينا ببعض، ولكي يرى حنان الغني على الفقير ويرى حب الفقير للغني وعدم تقديمه عليه.
وثواب الغني الشاكر وكذلك الفقير الصابر، ولكن الفقير الصابر هو الذي يدخل الجنة أولاً؛ لأن المال له طغيان، والفقير الصابر يدخل قبل الغني الشاكر الجنة بنصف يوم، واليوم عند الله قدره ألف سنة، إذاً: الفقير يدخل قبل الغني الجنة بقدر خمسمائة سنة، والسبب في ذلك أن صاحب المال الكثير سيحاسب من أين اكتسبه وفيم أنفقه، قال عليه الصلاة والسلام: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأله عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، و