وبعد البسملة قراءة الفاتحة، وقد قلنا: إن قراءة الفاتحة ركن، ويجب أن تأتي بها قائماً إذا كنت تصلي واقفاً، إلا لمرض أو لعجز ونحو ذلك وبعدها قراءة السورة.
فإذا كنت تصلي مأموماً في المغرب أو في العشاء أو في الصبح فقرأ الإمام ولم يسكت بعد الفاتحة لكي تقرأ أنت، وقد سمعت أنت حديثاً يقول: (لا صلاة إلا بأم الكتاب)، وهي الفاتحة، فإنك تفهم من الحديث أنه لا تصح الصلاة إلا إذا قرأت الفاتحة، ولذلك أفتى الإمام الشافعي بوجوب قراءة الفاتحة على الإمام والمأموم.
والإمام أبو حنيفة والإمام مالك قالا: إذا قرأ الإمام فليس عليك قراءة، وجاء الإمام أحمد فتوسط بين الطرفين، ويعجبني فيها رأي أحمد، وودت ألو كان رأي أبي حنيفة كرأي أحمد؛ لأن دراستي التفصيلية في مذهب الإمام أبي حنيفة، وبفضل الله درست بقية المذاهب، ولكن شغلي كله مع أبي حنيفة وتلميذيه محمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف رضوان الله عليهم جميعاً، فوددت أن رأي أبي حنيفة مثل رأي أحمد في هذه المسألة.
وأنا لا يهمني ما قال جمهور الفقهاء، بل يهمني الرأي الذي استند فيه إلى الدليل.
فالإمام الشافعي أخذ بحديث: (لا صلاة إلا بأم الكتاب)، والذي روى هذا الحديث رواه إلى هذه اللفظة فقط، وعندما بحثنا في هذا الحديث وجدنا أن هذا الحديث فيه جزئية لم تصل إلى الإمام الشافعي، وهي: (لا صلاة إلا بأم الكتاب، إلا أن تكون مأموماً فقراءة الإمام لك قراءة).
واستدل أبو حنيفة بأدلة عظيمة جداً: وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم فسيدنا الحبيب هو المحيط، والعلماء هم القنوات، وكل واحد يأخذ على قدر ما يعطيه الله عز وجل من فضله، فاللهم علمنا ما جهلنا، وذكرنا ما نسينا، وثقل بهذا العلم موازيننا جميعاً يوم القيامة، واجعله خالصاً لوجهك الكريم يا أكرم الأكرمين.
ومن جملة ما احتج به على الشافعي أنه قيل له: إذا دخلت إلى الصلاة لأصلي خلفك، فانتهيت أنت من قراءة السورة فركعت فكبرت أنا وركعت معك، فهل حسبت لي ركعة أم لم تحسب؟! فقال الشافعي: تحسب، فقيل له: ما قرأت الفاتحة، فتبسم الشافعي وقال: رضي الله عن أبي حنيفة، الناس كلهم في الفقه عيال على أبي حنيفة.
واحتج عليه بقول الله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، والمستمع شريك للمتكلم، فعندما تفتح القرآن المرتل عندك في البيت لتسمع الشيخ الحصري رحمه الله وجزاه الله خيراً، فإنك في الثواب كالشيخ الحصري تماماً؛ لأن المستمع شريك للمتكلم.
وإن سمعت غيبة تأخذ نفس المصيبة، أو إن سمعت سباً ورضيت به، أو إن سمعت أغاني، فالمغنية تكسب أموالاً وأنت تخسر حسنات.
فكأن الذي استمع إلى الإمام وهو يقرأ قد قرأ.
واحتج عليه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى خلفه أناس حديثو عهد بالإسلام، فكان يقرأ سورة الحمد وهم يقرءون معه، فبعدما انتهى قال: (ما لي أنازع في الصلاة؟ إذا قرأت فاستمعوا، وإن سكت فاقرءوا)، فالإمام أبو حنيفة والإمام مالك قالا: إنه إذا كانت الصلاة جهرية فالمأموم يسمع، بل قال أبو حنيفة رضوان الله عليه: حتى في صلاة السر، فلو لم يقرأ المأموم أجزأته قراءة الإمام وصلاته صحيحة، وانظر إلى التيسير.
ومما احتج به صاحبا أبي حنيفة على الإمام الشافعي أنه إن مكثت أقرأ الفاتحة على مهل، وقرأها الإمام مسرعاً، ثم ركع وأنا مازلت في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فإني أركع، ولا أكمل القراءة؛ لأنه لابد من أن أتابع الإمام، وأما مساواة الإمام فمكروهه وسبقه حرام، فلو أنك ركعت قبل الإمام فصلاتك باطلة، ولو رفعت قبل الإمام فصلاتك باطلة، والأفضل أن تتأخر عن الإمام قليلاً، ولكن لا تتأخر جداً.
وأما الإمام أحمد فقد أراحنا في هذه المسألة، وهذا رأي أفتي به إخواننا منذ عشرين سنة.
فهو يقول: في الجهرية لا تقرأ، وفي السرية تقرأ، وتكون بهذا قد أخذت بالأحوط، أو إذا رأيت إماماً يسكت ويطيل السكوت بعد الفاتحة، فاقرأ الفاتحة، ولكن الغالب أن الإمام لا يسكت المدة التي تستطيع أن تقرأ فيها الفاتحة بأحكام تلاوتها، فالأفضل أن تنصت.