ثم إن التوفيق للعبد في العبادة له علامات، وذلك لتسأل نفسك فتقول: ما هو الأمر الذي لم أوفق في الطاعة بسببه؟! فلماذا الطاعة ثقيلة علي، ولماذا المعصية يسيرة علي؟! فالواحد منا يسأل نفسه: لماذا كان قيام الليل صعباً على الواحد منا؟ ولماذا كان صيام الإثنين والخميس مسألة ليست سهلة؟ ولماذا كان الذهاب إلى المسجد يشكل عبئاً على القلوب؟! ولماذا صار قبول الحق صعباً؟! ولماذا لم تعد صفة التواضع فينا هي القاعدة الغالبة والكبر هو الاستثناء؟! فلقد صار الكبر قاعدة وصار التواضع هو الاستثناء! ولماذا صارت الخيانة طبع الجميع، والأمانة صارت استثناء في الناس؟! لقد كان الرعيل الأول إذا دخل الرجل إلى السوق لا يهم من يعامله، بل يقال له: عامل من شئت، وادخل عند أي تاجر في السوق؛ لأن كل التجار صادقون أمناء.
ثم جاء زمن تدخل فيه السوق فيقال: عامل من شئت إلا فلاناً وفلاناً، ثم جاء زمن يقال: لا تعامل إلا فلاناً أو فلاناً، ثم جاء زمن قيل فيه: لا تعامل أحداً.
وهذا الكلام يقوله سيدنا عبد الله بن مسعود، فكيف لو رأى زمننا هذا؟! لقد خرج الإمام أحمد لصلاة العصر فوقعت عينه على كعب امرأة، فوضع العباءة على وجهه وقال: هذا زمن الفتن.
فكيف بـ أحمد بن حنبل لو مشى في شوارع مدننا الكبرى؟! فماذا سيقول؟! نسأل الله العصمة، ونسأل الله الهداية، ونسأل الله الرحمة، ونسأل الله الستر، ونسأل الله العون، ونسأل الله شرح الصدور، إن ربنا على ما يشاء قدير.
فاسأل نفسك وقل: لماذا كانت الطاعة ثقيلة علي، وقبول الحق ثقيلاً علي، ولماذا كان الباطل حبيباً إلي؟! قال صلى الله عليه وسلم: (إن الحق ثقيل كثقله يوم القيامة، وإن الباطل خفيف كخفته يوم القيامة)، يعني أن الحق في الدنيا ثقيل كما أنه في الميزان ثقيل، فاللهم ثقل موازيننا يا رب.
وهو في الدنيا -أيضاً- ثقيل على النفس؛ لأن النفس تستهويها المعصية، فأيهما أحب إلى النفس: أن تنام ساعتين بالليل وتغطي نفسك بالبطانية أو باللحاف الجيد وتقفل الغرفة والنوافذ، أو أن تقوم فتتوضأ بماء بارد لتصلي لله؟! وأيهما أحب إلى النفس: أن آكل سبعة أيام في الأسبوع أو أن أصوم يومين؟ وأيهما أحب إلى النفس: أن الحق يظهر، سواء على لساني أو على لسان غيري، أم ألا يظهر إلا على لساني؟! فسيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم نهانا عن الجدل؛ لأن الجدال يجعلني أدخل في مرحلة أني أنتصر لنفسي بأي طريقة من أجل ألا يضحك علي أحد، وترى المتجادلين يقول أحدهما: أنا معي الدليل، فيأتي الآخر فيعطيه دليلاً أقوى فلا يلقى قبولاً، بل يقول: هذا حديث ضعيف، مع أنه في البخاري.
فالجدل محرم على المسلم مع أخيه المسلم، ولكنه جائز بين العلماء، فالعالم سيجادل العالم بالحجة فيصل إلى الحق.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً).