وقبل أن ندخل في الموضوع لابد من الحديث عن فضيلة مجالس العلم، فقد كثرت الأزمات في بيوتنا، ولعل الأزمات اشتد لهيبها وغبارها عندما انقطعت دروس العلم ودروس الإثنين والخميس، وصار كثير من المريدين لا يحضرون أي دروس في أي مكان، وهذه خلة أعتب عليهم فيها.
فالكثير من الإخوة والأخوات رفضوا الذهاب إلى دروس العلم، وبذلك استطاع الشيطان أن يغويهم، لأن العلم ودروس العلم هي التي تضيق الأبواب التي يدخل الشيطان منها، قال الحسن البصري رضي الله عنه: إن لك في المسجد فوائد سبع.
أول فائدة: أخاً مستفاداً في الله.
يعني الأخوة التي تحصل في بيت الله لا تحدث في أي مكان آخر؛ لأن زمالة العمل قد تنتهي بمجرد أن تحال على التقاعد أو تنقل من مكان إلى مكان وهذا على سبيل المثال.
لكن الأخ في الله عندما يغيب عنك قال فيه صلى الله عليه وسلم: (تعاملوا مع الناس بحيث إنكم إذا غبتم حنوا إليكم وإذا متم ترحموا عليكم)، يعني أن المسلم عندما يغيب عن أخيه فإنه يحن له فيسأل عنه، وإذا مات ترحم الناس عليه.
فنحن عندما نسمع اسم أبي بكر فإننا نقول: رضي الله عنه، فكم هي أعداد الناس الذين يدعون لـ أبي بكر بهذا الدعاء ولـ عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وحمزة وخالد وسعد وأم سلمة والسيدة زينب، كل الصالحين والصالحات عندما تأتي سيرتهم نقول: رحمهم الله، ورضوان الله عليهم، وعند ذكر الصالحين تستدر الرحمات.
وعندما مرض صديق للشافعي رضوان الله عليه، ذهب الشافعي ليزوره، فبسبب مرض صاحبه وأخيه في الله وحبيبه رجع وهو مريض، فلما وصل الشافعي مريضاً إلى البيت بلغ صاحبه مرض الشافعي فقام من فراشه وذهب يزور الشافعي، وكان الشافعي لا يستطيع الجلوس، فلما رأى أخاه قادماً إليه فمن شدة فرحته بشفاء أخيه قام من فراشه واحتضنه ثم ترجم الشافعي الكلام قائلاً: مرض الحبيب فزرته فمرضت من حزني عليه فأتى الحبيب يزورني فبرئت من نظري إليه ولا أحد يعرف الأخوة إلا الذي جربها.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها فأنت كمسلم من الواجب أن تراعي قضية هامة، وهي أن لك في المسجد أخاً مستفاداً في الله، وهناك أناس نحبهم على البعد وبمجرد السماع بهم.
ومن جميل أخوة النبي عليه الصلاة والسلام أنه عندما جاءه جعفر الطيار رضوان الله عليه من رحلة الحبشة مع إخوانه الذين كانوا مهاجرين معه كان عليه الصلاة والسلام يحتضنه ويقبله، وكان جعفر ابن عمه، وكان أشبه الناس خلقاً برسول الله، وكان يقول فيه: (أشبهت خلقي وخلقي)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا أدري بأيهما أفرح: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر).
وكان سيدنا الحبيب يراعي هذه القضية جداً، وكان لا يقوم لأحد أبداً، ولكن كان يقوم لـ فاطمة عندما يجدها قادمة فيحتضنها ويقبلها بين عينيها، وكانت فاطمة تضع رأسها على صدر أبيها، فتستريح من عناء الدنيا وبلائها.
والإنسان عندما يأتي إلى الجامع يجب أن يكون ذلك لهدف وهو إرضاء الله عز وجل، أو لطلب رحمة مستنزلة، يقول تعالى في الحديث القدسي: (ألا إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زواري عمارها ألا إن من تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فما على المزور إلا أن يكرم زائره).
والملائكة السياحون في الأرض دائماً ما يقعدون في مجالس العلم، وأقول: لو كُشِفَ الحجاب لرأيت حولك من الملائكة مالا يعد ولا يحصى، ثم يصعدون إلى الله عز وجل وهو العليم الخبير فيسألهم (علام ما تركتم عبادي؟ فيقولون: يتدارسون العلم ويسمعون آياتك، فيقول: ماذا يريدون؟ فيقولون: يريدون الجنة، فيقول: وهل رأوا جنتي؟ فتقول الملائكة: لا يا رب، فيقول: فما بالكم لو رأوها؟ ومم يستعيذون؟ فيقولون: من النار، فيقول الله: هل رأوها؟ فيقولون: لا يا رب، فيقول: لو رأوا النار ماذا سيعملون؟ أشهدكم أني قد غفرت لهم.
فيقولون: إن فيهم فلاناً إنما جاء لحاجة، فيقول: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، فحتى الذي جاء لمصلحة أو الذي جاء يكتب تقريراً أو الذي أتى يعمل شيء غير حضور المجلس فربنا يغفر للكل ويكرمه سبحانه من أجل المجموعة.
ولا يسمع العلم إلا في مثل مجالس الذكر التي في المساجد، فالعلم لا أعرفه إلا في بيت الله، فطالما أن المسلم وثق بالإنسان الذي يتكلم وصارت بينهما علاقة حب في الله صار بين العالم والمريد أو الشيخ ومريده علاقة ينتج عنها ثمرة طيبة، علماً مستظرفاً أو كلمة تدلك على هدى، أو تمنعك من ردى.
وذات يوم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المسجد بعد العصر فوجد صحابياً قاعداً في الجامع واضعاً خده على كفه فقال له عليه الصلاة والسلام: (ما الذي يجلسك في وقت ليس من أوقات الصلاة في المسجد؟ قال له: هموم وديون لزمتني يا رسول الله)، فعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم ثمان كلمات: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال)، فبمجرد أن يقولها الإنسان فإن ربنا يفرج الكرب.
فتسمع في المسجد كلمة تدلك على هدى، أو تمنعك من ردى، أو أن تترك الذنوب خشية أو حياء، فعندما تتعود على المسجد تستحي أن ترتكب غلطة في الخارج.
فدروس العلم كلها فائدة، ولن ينشرح الصدر إلا بدروس العلم، ولن تشعر أنك قريب من الله إلا بدروس العلم، والإنسان الذي يحضر دروس العلم يعلم الفرق بين الصلاة التي تكون قبل الدرس والصلاة التي تكون بعده، فأنت تأتي إلى صلاة المغرب ولا زالت هموم العمل والدنيا ومشاغلها عالقة في ذهنك، ثم تجلس في الدرس وتستمع الشيخ وتصلي بعد ذلك العشاء، فالنفسية التي صليت بها العشاء تختلف تماماً عن النفسية التي صليت بها المغرب؛ لأن صلاة العشاء تأتي بعد درس العلم، ولذلك فالصحابة رضوان الله عليهم كان عندهم الخشوع لله عز وجل في جميع الصلوات؛ لأنهم كانوا مع الله في كل وقت، وكانوا موصولين بالله عز وجل.
فدرس واحد أو مجلس واحد من مجالس العلم يكبر سبعين مجلساً من مجالس الذنوب، وكل مجلس من مجالسنا ليس فيها ذكر لله فهي من مجالس الذنوب.