تموت خديجة ويموت أبو طالب فيزداد تكذيب أهل مكة وإيذاؤهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فبعد رجوعه من الطائف إلى مكة منعه أهل مكة من الدخول إليهم، وبعدما مات أبو طالب ودفن، جاء جبريل إلى رسول الله فقال له: يقرئك ربك السلام، وأنه يستضيفك هذه الليلة في سمائه.
وهذا من أجل أن تتعادل القوى، ويحصل شرح وتثبيت لسيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأحداث متلاحقة والدعوة تريد قوة.
فجاء جبريل ومعه البراق وهو أكبر من الحمار ودون البغل، قريب من الحصان، سمي البراق بهذا الاسم لأنه كالبرق في سرعته، يضع حافره آخر ما يقع عليه نظره، فسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم لما خطرت به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتمم فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى فرأى الأنبياء وقوفاً صفاً صفاً لاستقباله صلى الله عليه وسلم، وهل صلى هؤلاء الأنبياء بأرواحهم أم بأجسادهم؟ فلا يعلم كيفية ذلك إلا الله.
ووقف الحبيب المصطفى تواضعاً في الصف، فإذا بجبريل يأخذ بيد الحبيب ويقدمه عليهم ليصلي بهم؛ لأنه خاتمهم وسيد الخلق وحبيب الله.
وفي هذا إعلان واضح وعام وشامل بمكانة الحبيب، فصلى بهم ركعتين على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، مع أن أباه إبراهيم موجود، ثم عرج به إلى السماء السابعة، وكان لكل سماء لون ومادة تختلف عن مادة ولو السماء الأخرى.
وفي رواية البخاري أن جبريل طرق باب السماء الأولى، فقيل له: من؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، فرحب به أهل السماء، يعني: إذا كنت يا محمد! قد كفر بك بعض الإنس فقد آمن بك الجن، وإن كنت مكذباً في الأرض فأنت مصدق في السماء، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فرأى أبا البشر آدم فرحب به فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم صعد إلى السماء الثانية فرأى سيدنا إدريس ثم صعد إلى السماء الرابعة فرأى الكريم ابن الكريم ابن الكريم سيدنا يوسف بن يعقوب بن إبراهيم، ثم صعد إلى السماء الخامسة فرأى سيدنا نوحاً فقال له: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، ثم صعد إلى السماء السادسة فرأى سيدنا موسى، ثم صعد إلى السماء السابعة فوجد أباه خليل الله إبراهيم عليه السلام فقال له: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، بلغ أمتك مني السلام، وقل لهم: إن الجنة عذب ماؤها، حصباؤها اللؤلؤ، وغرسها سبحان الله والحمد لله.
أقول: غمسة واحدة في الجنة تنسيك آلام الدنيا ومتاعبها ومصائبها.
ثم صعد النبي عليه الصلاة والسلام من السماء السابعة إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها -أي: حملها وثمرها- كقلال هجر، وهي عبارة عن جرار مصنوعة من الفخار، وأوراقها كآذان الفيلة، فتأخر جبريل وقال له: وما منا إلا له مقام معلوم، تقدم أنت فلو تقدمت لاحترقت، لأن جبريل مخلوق من نور، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم خطوات فإذا ببرد وسلام فعلم أنه على بساط حظيرة القدس.
والله عز وجل لا يحيط به مكان ولا زمان، وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك.
قال رجل لـ أبي حنيفة: أنا لا أومن إلا بشيء أراه، فأخذه أبو حنيفة حتى أوصله إلى شاطئ نهر الفرات، وأنهار الجنة أربعة: نهران باطنان منبعهما الجنة ونهران في الدنيا: النيل والفرات، فحفر حفرة صغيرة في الشاطئ، وطلب من الرجل أن ينقل ماء النهر بكامله إلى وسط تلك الحفرة، فقال الرجل: أيعقل أن ينقل كل ماء النهر في هذه الحفرة؟ فقال أبو حنيفة: فهل يعقل بعقلك الصغير أن ترى الله عز وجل؟ فلما علم الحبيب أنه في حضرة الله عز وجل أسرع بخلع نعليه كما صنع كليم الله موسى عندما كان في الوادي المقدس طوى، فقيل له: لا تخلع نعليك، فتلعثم النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام فألهمه الله فقال: التحيات لله والصلوات والطيبات، فقال الله عز وجل: السلام عليك أيها النبي ورحمته وبركاته، فقال الملائكة أدباً: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فضجت ملائكة السماء وملائكة الأرض: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
وقدم جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أكواب: كوباً من العسل وكوباً من الماء وكوباً من اللبن، فشرب اللبن فقال جبريل: هديت أمتك على الفطرة، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم المغتابين والنمامين والمرابين وهم يعذبون، ورأى الذين يفعلون الخير والذي يجاهدون في سبيل الله.