وقد سألني أحدهم فقال: ألم تقل في خطبة سابقة: إن أجساد الأنبياء والعلماء والشهداء لا تأكلها الأرض، لماذا؟ فقلت له: أولاً: لست أنا الذي يقول! بل هذا الحبيب المصطفى هو الذي يقول، ثانياً: أما ما هو السبب؟ فقد ضربت له مثلاً بسيطاً جداً.
فقلت له: أنت لو أتيت بقالبين من طوب، قالب طوب لبن (غير محرق) ووضعته في الماء، ستجد أنه بعد ساعتين يتفكك، وأتيت بالقالب الثاني الذي أحرقته حتى صار طوباً أحمر، فإنك مهما وضعته في الماء يبقى كما هو، فقالب الطوب عندما حرق بالنار أصبح يتحمل الرطوبة والثقل، فالطوب اللبن الغير محرق مثله الذي لا يصلي ولسانه يخوض وعينه تزوغ وأذنه تسمع والرجل تمشي واليد تمتد للحرام، فهو ما تعب في شيء! فلذلك تكون نهايته مثل نهاية الطوب النيئ، فأول ما يدخل القبر يعصر حتى يذاب جسده.
أما الثاني فقد احترقت بدايته فأشرقت نهايته، ولذا عندما نقرأ عن الصحابة رضوان الله عليهم وما حصل لهم نجد عجباً.
فهذا سيدنا مصعب بن عمير -رضى الله عنه- أول سفراء الإسلام لما دعي الحبيب المصطفى ليصلي عليه بعد أن استشهد في أحد وجد عليه ثوباً إذا غطوا به وجهه ظهرت رجلاه، وإذا غطوا رجليه ظهر وجهه، فقال: (غطوا وجهه وضعوا على قدميه الإذخر، ثم بكى النبي صلى الله عليه وسلم! فقيل: ما يبكيك يا حبيب الله؟ قال: لقد رأيت هذا الشاب بمكة) وقد كان سيدنا مصعب قبل الإسلام يسمى الشاب المعطر وكانت أمه تستقدم ملابسه الداخلية من حرير اليمن الخالص.
شأنها اليوم شأن من يذهبون هذه الأيام إلى باريس لاستقدام كسوة الشتاء، وإلى لندن من أجل كسوة الصيف، فكانت أم مصعب بن عمير من الغنى تأتي له بالملابس الداخلية من الحرير اليمني، فكيف بالملابس الخارجية؟ فلما دخل في الإسلام منعته أمه من المال، وعاش على شظف العيش وبانت عليه الشدة، فتذكر الحبيب صلى الله عليه وسلم أيامه وبكى، ثم قال: (كيف بكم إذا جاء عليكم زمن يغدى على أحدكم بصحفة ويراح بأخرى -أي: يعطونه طبقاً فيه نوع من الأكل ويأخذون طبقاً فيه نوع آخر من الأكل- يغدو أحدكم في حلة ويمسي في أخرى) أي: يلبس في الصبح (بدلة) وبعد الظهر (بدلة) ويلبس في الصبح (ثوباً) وبعد الظهر (ثوباً)، قالوا: ما أجمل هذا يا رسول الله، إذاً نتفرغ لنشر الدين ولا يشغلنا الرزق عنه.
فقال صلى الله عليه وسلم: (لا، أنتم اليوم خير من يومئذ)، لأن المال سيشغل الناس عن الدين وعن الطاعة، ومثل محب الدنيا كشارب من البحر لا يزيده الشرب إلا عطشاً، ولن يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، فمن احترقت بدايته أشرقت نهايته.