كان الإسلام ودعوته غريباً على عادات وتصورات وعقائد الجاهلية، كان غريباً في عقيدته وتوحيده:"أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ "، وكان غريباً في نظامه وشريعته:" قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ "، وكان غريباً في أخلاقه:" إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً"، وكان غريباً في كل شؤونه وأحكامه:" يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم "، وكان غريباً في سياسته وحكمه:" وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم "، " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون "، وكل هذا البناء الشامخ كان السبب في انقلاب الجاهلية بكل مقوماتها وتصوراتها وعقائدها على الدعوة الإسلامية، والوقوف بينها وبين الناس وإيمانهم بها، يقول أبو الحسن الندوي رحمه الله:" والتقى أهل مكة بأهل يثرب. لا يجمع بينهم إلا الدين الجديد. فكان أروع منظر لسلطان الدين شهده التاريخ. وكان الأوس والخزرج لم ينفضوا عنهم غبار حرب بعاث. ولا تزال سيوفهم تقطر دماً. فألَّف الإسلام بين قلوبهم. ولو أنفق أحد ما في الأرض جميعاً ما ألَّف بين قلوبهم. ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين المهاجرين. فكانت أخوة تزري بأخوة الأشقاء. وتبذ كل ما روي في التاريخ من خلة الأخلاء. كانت هذه الجماعة الوليدة- المؤلفة من أهل مكة المهاجرين وأهل يثرب الأنصار- نواة للأمة الإسلامية الكبيرة التي أخرجت للناس ومادة للإسلام، فكان ظهور هذه الجماعة في هذه الساعة العصيبة وقاية للعالم من الانحلال الذي كان يهدده. وعصمة للإنسانية من الفتن والأخطار التي أحدقت بها. لذلك قال الله تعالى لما حض على الأخوة والألفة بين المهاجرين والأنصار: " إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ". (ماذا خسر العالم:84)
هذه إشارات سريعة للوقوف على واقع الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين في بداية العصر الإسلامي النبوي الأول، وكيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم صياغة جيل الدعوة الفريد، من مرحلة البناء والتكوين، إلى مرحلة القيادة والتمكين، إنه منهج فريد حقاً في كل مقوماته وإنجازاته ..
*********************************
الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين (2/ 4)
(المنهج السلفي وطريق التمكين)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: طريق التمكين اليوم، طريق جهد وشاق، وقد أودع الله تعالى في كتابه وكونه سنناً ربانية وجارية، لإقامة هذا الدين في الأرض وفي دنيا الناس، وفصل لنا سبحانه معالم التمكين لدينه وشريعته، ودل عليها وأمر بها:"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ".